مباهج المأساة.. لماذا نُؤثر أدب المأساة على أدب الملهَاة؟



مباهج المأساة.. لماذا نُؤثر أدب المأساة على أدب الملهَاة؟ (*)
الكاتب: علي أدهم


لا نزاع في أن من أحب الكتب إلى نفوسنا هي الكتب التي نوافق صاحبها على وجهة نظره، ونعجب بما يعجب به، وننفر مما ينفر منه، ولكن الكاتب الذي يثير في نفوسنا العطف لأنه كشف عن آلام البشر نجد متعة في قراءة كتبه، وإن خالفناه في نظرته العامة للدنيا. وقد نستلذ قراءة الروايات الفكهة المضحكة، ولكن أمثال هذه الكتب قل أن تصبح ضمن كتب الأدب الباقية على الدهر.

 وأحب الكتب إلى نفوسنا هي الكتب التي تُثير فينا العطف العميق على إخواننا البشر، وتُشعرنا الخوف والرهبة إزاء لغز الحياة وأحداث القدر، ولذا نجد أن كتب المآسي أحب إلى نفوسنا من كتب الملهيات، والمأساة أكثر تأثيرًا في نفوسنا من الملهاة، وكأننا لا نستمتع بالكتب إلا إذا أثارت شجوننا، ومست شغاف قلوبنا، وكأننا يسعدنا أن نحزن، والأدب الحزين هو الذي يثير نفوسنا، ويفجر ينابيع العطف والرحمة.

ولقد حاول كثير من الباحثين والنقاد الكشف عن أسباب ارتياحنا للأدب الحزين وبخاصة أدب المأساة، وذكروا آراء قد لا تكون حاسمة في تعليل هذا الارتياح، ولكنها على أي حال تلقي ضوءًا على نواحي هذه المشكلة، فعلل بعضهم ذلك بأن المأساة تهز نفسنا وتفزعنا، أو أنها تجعلنا نشعر بأن البشر لا حيلة لهم ولا قدرة أمام سطوة الأقدار، وإدبار الحظ، ووقوع المكاره، وأنها ترينا كيف تهوي العظمة من عليائها، وتنهار القوة، وتصوح زهرة الجمال، ويعتريها الذبول، ويعصف الموت بكل أسباب الحياة.

ولكن لماذا تذهب الناس لترى ما أصاب الملك لير، وتشاهد إخفاق مارك أنطوني، ومصرع كليوباترا، لماذا ترتاد الناس المسارح وتنفق من مالها لترى هذه المشاهد المحزنة التي تكشف ضعف الإنسان، وترينا تقلب الحظوظ، وسخرية الأقدار؟ وإذا كنا نكره أن تطالعنا مناظر البؤس والشقاء في واقع الحياة، فلماذا نسعى إلى المسارح لنشاهد المآسي التي تثير الخاطر وتحرك كوامن النفس؟

يرى الكاتب البريطاني (مونتاج ـ Montague) أن المأساة حقيقة تثير مشاعر الفزع والخوف، وتجعلنا نحس الضياع والسقوط،  ولكن شعورنا بذلك في المسرح يختلف الاختلاف كله عن شعورنا أمام الكوارث التي نشاهدها في الحياة الواقعية، ففي المسرح حينما نشاهد تمثيل المأساة تلم بنفوسنا هذه المشاعر ملطفة منقاة وخالية من الخطر، والمآسي بموجب هذه النظرية تصقل نفوسنا، وتشد من عزمنا، وتشحذ قدرتنا على النضال، وتقوي استعدادنا لملاقاة الخطوب، ودفع الكوارث، فهي بمثابة اللقاح الذي يكسب الجسم مناعة ترد غائلة المرض، وتقضي على جراثيم الداء، وليست لها قسوة وقع أحداث الحياة الواقعية، وإنما هي تشبه الخدش اليسير الاحتمال.

ونحن نشعر بالعطف على مَن يفتح لنا مغاليق قلبه، ويفضي إلينا بدخائل نفسه، ومؤلف المأساة قد استطاع التغلغل إلى نفوس أبطال مأساته، واستحضر في نفسه أهواءهم وميولهم، وجعل نفسه وسيلة لنقل مشاعرهم إلى وجداننا، وقد استطاع تصوير مشاعر وأحاسيس يعجزنا تصويرها، فهو أقوى منا إحساسًا، وأبرع تصويرًا، وهو يقدم لنا ثمرات هذا الشعور الدافق، والتصوير البارع، وكأنه يفضي إلينا بما خالج نفسه من أهواء ومشاعر، وأرجح أننا بوعي أو بغير وعي نستطيب هذه الثقة التي تحرك في نفوسنا بواعث العطف والمشاركة الخيالية، وكل اقتراب عاطفي أو عقلي يدخل على نفوسنا السرور، ويزيد ثقتنا بأنفسنا.

ومما يؤثر عن الشاعر الروماني (هوراس) قوله: "استشعر الحزن والأسى إذا أردت أن تجعل مسرحيتك تُفجر من عيني الدموع". وبطبيعة الحال ليس المطلوب في المأساة أن نحزن على ما يصيب البطل حزننا على أقرب الناس إلينا أو أعز أصدقائنا، وإنما المطلوب أن نستحضر صورة واضحة قوية مؤثرة لما يصيب البطل. ويقول الناقد مونتاج إننا لكي نزود مدينة من المدن بماء من أحد الينابيع المائية، فإن علينا أن نرفع المياه إلى قمة عالية في برج أعلى من الأحواض جميعها التي تغمرها المياه. وعقل كاتب المأساة يشبه هذا البرج، والوقائع التي تنقلها إلينا رواية مأساوية لا تصل إلى نفوسنا وتؤثر فيها تأثيرها إلا بعد أن تتسامى في نفس مؤلف المأساة. فهو ببراعة فنه، وقوة أدائه، وبلاغة تعبيره، ومهارة تصويره. يرفعها إلى المستوى الذي يجعلها تؤثر في نفوسنا. وقد كانت قصة مأساة هاملت معروفة قبل أن يتناولها شكسبير بعبقريته الفنية وأن يسمو بها، ويوحي إلى نفوسنا مشاركته في الشعور بهذا التسامي. وأرجح أن هذه المشاركة في التسامي بالشعور من أقوى أسباب ميلنا إلى أدب المأساة.

وقد اتهم أفلاطون الشعر، وبنوع خاص شعر المأساة، بأن له تأثيرًا سيئًا يرجع إلى مقدرته على إثارة المشاعر، ومن هذه الناحية وجَّه أفلاطون اتهامه للشعر، وقد رد عليه أرسطو دون أن يذكر اسمه. وقد رأى أفلاطون أن بطل المأساة يستثير مشاعرنا بندب سوء حظه، والشكوى مما ألم به من الخطوب والكوارث، في حين أننا في الحياة نعجب بحق بالرجل الذي يحتمل الخطوب صابرًا محتسبًا دون أن يشكو أو يتوجع، وكان الأجدر بالبطل أن يكف عن الإسراف في الشكوى وإظهار الألم، ويصبر ويتجلد، فكيف نعجب ببطل المأساة وهو يسلك المسلك الذي يزري به في واقع الحياة؟ وفضلًا عن ذلك فإننا إذا رضينا لأنفسنا الاسترسال مع الحزن ضعفت سيطرتنا على مشاعرنا، وعجزنا عن تحمل الآلام، ومواجهة الأحداث الخطيرة، وبذلك يصبح تأثير المأساة سيئًا، لأنه ينال من عزيمتنا، ويضعف قوة مقاومتنا، ويحد من سيطرة العقل، ويمكِّن العواطف من السيطرة علينا.

 ويسلم أرسطو بأن المأساة تثير العواطف وتحرك الشجون وقد لا تخلو إثارة العواطف من الخطر ولكنه رأى أن المأساة لا تكتفي بإثارة هذه العواطف لذاتها. وإنما تثيرها لتتطهر منها نفوسنا، ولتتخلص من تأثيرها، وتأمن سطوتها، ويرى الناقد (أبركرومبي ـ Abercrombie ) أن أرسطو قد اتبع في رده على أفلاطون طريقة الطب اليوناني الذي كان يرى أن كل جسم يجوز استخراج ما به من مادة غريبة بأن يُعطى مادة تشابهها بمقادير خاصة، وأن هذا يُشبه طريقة التطعيم ضد الأمراض في الطب الحديث. فالمأساة في رأي أرسطو فيها شفاء للنفس من الشعور بالخوف والرأفة، والارتياح الذي نشعر به حينما نشاهد تمثيل المآسي مصدره التخلص من هاتين العاطفتين.

وقد تابع أرسطو في هذا الرأي الشاعر الإنجليزي (ملتون)، وذكر في مقدمته لمنظومته عن شمشون: " أن المأساة هي أكثر أنواع الشعر نفعًا"، وأيد رأيه بكلام أرسطو، ونرى من ذلك أن وظيفة المأساة في رأي أرسطو تشبه العلاج الطبي، فشاعر المأساة ينقي نفوس الذين يشاهدون تمثيل مسرحيته، ويردهم إلى العاطفة السليمة، ويريح نفوسهم.

وينكر أبركرومبي على أرسطو صحة هذا التفسير، وعنده أن المأساة حقيقة تؤثر في النفس تأثيرًا ممتعًا ونافعًا بأن تبعث فينا مشاعر قد تكون في الحياة العادية مقلقة ومزعجة، وقد يصحبها الألم، ويتبعها الخطر، ولكن المشاعر التي يثيرها أمامنا تمثيل الشر سواء كان هذا الشر سببه الرذيلة أو كان سببه الدمار والخراب والبؤس والشقاء تستبعد المأساة منها آثارها السيئة وتجعلها مفيدة مجدية، وهي بهذا المعنى تطهر ـ في رأي أبركرومبي ـ الشعور تطهيرًا.

ويقول أبركرومبي، تقوم المأساة بعرض مصائب الحياة، ولكن بفضل وحدة موضوع المأساة تصبح حتى مصائب الحياة نفسها مثلًا للعالم الذي نرغب فيه أشد الرغبة، وهذا يفسر لنا اللذة التي نتذوقها في المأساة، فإن الأشياء التي تكون في الحياة باعثة على الحزن تكون في المأساة المسرحية باعثة على التنفيس، ومع أنها قد تظل مثيرة للألم، ولكن هنالك شيء آخر يضاف إلى ذلك، وهذا الشيء هو الذي يجعل في آلام المأساة خيرًا لأنفسنا، وهكذا نجد حتى في وسط الشرور التي في المأساة ذلك العالم الذي نلتمسه ونرغب فيه، وبهذا المعنى يمكن أن يقال إن المأساة تُحدث تطهيرًا في العواطف التي تثيرها.

وقد يبدو في إعجابنا بالمأساة تناقض يبعث على التفكير، فمن طبيعة الإنسان أن يتجنب الألم كما نتحاشى الوباء، ولكن الواقع أن مشاهدتنا للمأساة لا تثير في نفوسنا الشعور بالألم، وإنما تحدث عكس ذلك، وذلك لأن المأساة تصاحبها عقدة محكمة، وشخصيات قد أتقن المؤلف تصويرها، كما أنها مكتوبة بأسلوب أدبي لامع، ويقوم بتمثيلها ممثلون يجيدون التمثيل، وبذلك تزخر نفوسنا بالعواطف التي تؤثرها تلك العواطف، التي تخرجنا من الحياة العادية المألوفة إلى حياة شائقة، وإذا كانت المأساة تُدخل الحزن على نفوسنا فإنها في الوقت نفسه تُقدم لنا صورًا من الحياة تسمو بنا، وتقوي عزمنا، وتزودنا بنظرات للحياة صائبة، وتجربة نافعة، وأحسب أن هذا مما جعل للمأساة مكانة مرموقة في الأدب القديم والأدب الحديث.


(*) نص مختصر بتصرف من مقال الأستاذ علي أدهم: (لماذا نُؤثر أدب الحزن والمأساة على أدب التسلية والملهاة).

إرسال تعليق

أحدث أقدم