ما هو الأدب الرفيع؟

Tolstoy

ما هو الأدب الرفيع؟

الكاتب: معاوية محمد نور

 

ما هو الأدب الرفيع؟ ما هو موضوعه، وما هي غاياته؟ أي الأساليب يتخذ، وفي أي القوالب ينصب؟ وبالاختصار: أي عوالم يكتشف، وأي أنغام يوقع، وأي صورة يرسم؟ وفي أي الأجواء يصول ويجول؟ هذه هي الأسئلة التي تجابهنا كلما أردنا الحكم على الأعمال الأدبية، وقياسها ونقدها، ووضعها حيث يجب أن تكون من مكانها في دولة الفن والأدب الرفيع، وليست هذه الأسئلة بالهينة، ولا بالتي يمكن الجواب عنها عفو البداهة، ولربما حتى ولا بعد التثقيف؛ فكيف يمكن أن تعرف في كلمة أو كلمتين؟!

أتعني بالأدب الرفيع ذلك الذي يطير في خيال عارم، لا تحده أصول، ولا تشذب من جوانبه حقائق وقوانين؟ فإذا كان كذلك فإن خيالات المريض والأطفال لأعلى أدب لا يتسامى إليه أعظم الجبابرة وأقدر الكاتبين. أم هو الأدب الذي يصف عالم المرئيات والحواس ولا يُعنَى إلا بما يقاس وبما يوزن، وبما يمكن وضعه في قالب الحساب والأرقام، كما يدعي بعض الناس في هذا العصر الأخير؟ وإذًا فإن الفتوغرافيا لهي حد الكمال الأدبي الذي لا كمال بعده ولا قبله، ومثل مَن يكتب الأدب وهذا نظره إليه؛ كمن يدعي أن الضخامة هي كل شيء، ثم يوزن نفسه إلى جانب الأفيال!

أم هو ذلك الأدب الذي يدهشك، ويوقف شعر رأسك هولًا وفزعًا فيسرع نبضك ويخفت نفسك، فإذا كان كذلك فإن مما لا شك فيه أن القصص البوليسية وما إليها لأرقى الآداب وأعلى قصص تتقطع دونه الأعناق.. أم هو ذلك الأدب الذي لا يعني إلا بمسائل الحب الحسية، والرومانسية وما إليها.. فإذا كان كذلك فإن القصص التي يمكنك أن تبتاعها في رصيف القطار لأرقى أدب وأعلى بيان؛ لأن فيها عواطف تشبه الماء رقة، وفيها حب وفيها خطف وفيها كل غريب، وإذا كان الأمر كما وصفنا، لكان (إدجار والس) و(هول كين) وخلافهما من الذين تباع مؤلفاتهم بمئات الألوف، أرقى الأدباء وأمهر الفنانين، ولما ذكر دستيوفسكي ولا أحد من أدباء الروس حين يذكر الأدب والأدباء.

وإذا لم يكن الأدب الرفيع شيئًا من هذا فما هو إذًا؟ وفي أي العوالم يجول وما هو موضوعه، وما الذي يرمي إليه؟ ذلك ما أود أن أبينه، ولو أنني لا أدري أأستطيع أن أجعل فكرتي بارزة على القرطاس بروزها في عقلي؟ فأقول: الأدب من قبل كل شيء وبعد كل شيء، وغاية الفن التعبير في جمال وقوة، وعرضه وجهة نظر في الحياة والأحياء، بل في الكون أجمع، وهو فردي في عنصره، من حيث إن عارضه ومبدعه فرد، غير أنه جماعي من حيث إنه يخاطب عواطف الإنسانية وأفكارها المشتركة، ويعبر عن إحساس جامع، ويكون البوق الناطق حيث لا تستطيع ألسنة الآخرين النطق ولا الكلام، والأديب المجيد من رُئي حيث لا يرى الآخرون، وأتى بشيء غير غريب عن هؤلاء الذين لا يرون، وجعل من ألفاظه بريقًا شفافًا يوضح ما أراده من فكر وعاطفة أتم توضيح، ومن أسلوبه عنصرًا يزيد الرأي قوة وجمالًا.

ولكن ما هي غاية الفن؟.. هل هي إرضاء الفنان نفسه وإشباع حاسته الفنية وليس هو للجماهير أو الناس كما يقول بذلك (وهستلر)؟ أم هو شيء يجب أن يفهمه كل إنسان، وإلا فإنه ليس بالفن كما يقول تولستوي، فقد حكم تولستوي على تراجيدية شكسبير الملك لير وعلى سيمفونيات بيتهوفن، لأن الفلاح الروسي لا يستطيع فهمها ولا أحسب إلا كلا الكاتبين على غير الصواب.

فالفن بتعريفه وهو تعبير لا بد أن يكون للناس، إما أن كل إنسان يجب أن يفهمه وإلا فإنه ليس فنًا، فهذا شطط لا نعرف كيف نبرره من تولستوي، وهو الذي كتب بعض أعماله الفنية، والتي إذا ما قرأها فلاحنا لم يفهم ماذا يعني الكاتب ولا ما يقصد بها.

فالأدب فن ووسيلته التعبير القوي، وموضوعه موضوع الدين ـ في أعلى معانيه ـ وغايته عاطفة الأزل، وعالم السماء، وأغنية الأقدار، ولعب الإنسان أو لعب الأقدار فيه، في هذه الحياة الدنيا! فيعرض الأشخاص التي تنازع الأقدار والأقدار تنازعها، ويعرض الجمال بالكلمات والعواطف بالأمثال.. ذلك هو تعريفنا للأدب الرفيع، وبقرب العمل الأدبي من هذه الغايات أو بعده يجب أن يكون حكمنا عليه أو له.

ذلك هو الأدب، فما هو لغو ولا هو حديث، وإنما هو تاريخ حياة النفس لا الجسم ولا الوصف ـ كما يدعي الواقعيون ـ وما هو بتاريخ حياة كل نفس، وإنما هو تاريخ حياة النفس الجائشة، المليئة بأسباب القوة، المترعة بالجمال ووفرة الحياة والإحساس؛ هو تاريخ حياة النفس في أعلى ساعات نشاطها وفي أحرج لحظات حياتها وفي أثمن تجاربها وصراعها بين العوامل المتضادة والقوى المتنافرة، وبين أسباب الموت والحياة.

فالأدب الرفيع يصول مع الأقدار، ويكتشف عوالم النفس البشرية، ويتمتم مع الله، ويجول في عالم اللانهاية. هذا هو الأدب الخليق باسمه، يجب أن تستقيم النظرة إليه، وأن نصحح مقاييسه وندعو إلى الإصلاح فيه. فالأدب يريك في لحظة ما يحاول علم النفس أن يشرحه ويحل غوامضه بطريق طويل، وربما لا ينجح في ذلك ولا يترك الأثر الذي يود تركه. كما يتخذ الدين في ذلك الشعائر والطقوس الدينية، والفلسفة بالمعميات والمنطق، وإنما شعائر الأدب وطقوسه الإحساس به؛ ذلك هو جلال الأدب وسر روعة الفنون.

إرسال تعليق

أحدث أقدم