شحاذون نبلاء.. العائشون في انتظار الطوفان

شحاذون نبلاء.. العائشون في انتظار الطوفان

الكاتب: محمود راضي


قد تبدو عبارة الكاتب المسرحي اﻷمريكي يوجين أونيل الشهيرة: (إن اﻹصلاح الوحيد الجدير بالاستحسان هو الطوفان الثاني) - للوهلة اﻷولى - عبارة يائسة مغرقة في عدميتها، لا ترى أي جدوى من محاولات إصلاح الأوضاع التي تجاوزت مداها من السوء، لكنها في الوقت ذاته قد تشكِّل إشارة إلى بداية جديدة طال التَّوْق إليها في سبيل محو خطايا وآثام البشر كافة، وإعادة بناء العالم مجددًا من الصفر، وهي فكرة – بالطبع - ليست بالغريبة بسبب تجذُّرها في الموروث الإنساني والديني من خلال قصة طوفان النبي نوح الذي رمى إلى الهدف ذاته.

عند مطالعة الصفحات اﻷولى من الاقتباس الفرنسي المصور لرواية (شحَّاذون نُبلاء) للكاتب المصري/ الفرنسي الراحل ألبير قصيري، والذي صدرت ترجمته للغة العربية مؤخرًا - بعد 27 عامًا من إنتاج فيلم سينمائي شهير عن نفس الرواية من بطولة صلاح السعدني وعبد العزيز مخيون، وبعد 63 عامًا من صدور الرواية للمرة اﻷولى باللغة الفرنسية - نرى أول ما نراه (جوهر) مدرس التاريخ المتقاعد، وهو غارق في طوفان هائل غمر معه أهرامات الجيزة والكرة الأرضية نفسها، جارفًا أمامه كل شيء في طريقه، وسرعان ما يستيقظ من النوم لنكتشف أن كل هذا ليس إلا مجرد حلم، مصدره الغرق الفعلي لغرفته الصغيرة بسبب سيلان مياه تغسيل جاره الميت ووصولها إليه حيث ينام فوق كومة من أوراق الصحف.

عقب هذه البداية المباغتة التي يتعانق فيها خيال باطني لتغيير اﻷحوال حتى ولو من خلال كارثة كبرى، وواقع يشي بمنظومة حياتية خربة تحكمها العشوائية التامة التي تسمح حتى بتواجد المتناقضات جنبًا إلى جنب، تتوغل الرواية المصورة أكثر فأكثر داخل مظاهر هذه المنظومة المحكومة بأمراض الفقر والجهل التي يعيشها جوهر هو اﻵخر في حالة بين - بين، بين الاتصال النشط بها إشفاقًا على أحوال الناس، وبين الانفصال الذهني عنها والتعامل معها بشيء من الاستعلائية أو الفوقية التي لا تعد احتقارًا بالمعنى المفهوم، بقدر كونها وقوف من موضع يسمح برؤية أشمل وأبعد من الرؤية الجزئية للباقين.

لا يصعب على القارئ التكهُّن بزمن الرواية من خلال ملابس الشخصيات والمظاهر الحياتية لهذا العصر، باﻹضافة إلى ورود إشارة وسط حوار الضابط نور الدين والشاعر المعدم يكن حول القنبلة القادرة على محو مدينة كاملة من على وجه اﻷرض، لنستنبط من المتابعة أن اﻷحداث تجري خلال خواتيم الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي تعد اﻷبشع في تاريخ البشرية أجمع من حيث الرقعة الجغرافية وعدد الضحايا الذين سقطوا قتلى فيها، مدنيين قبل العسكريين.

إذن فهذه اﻹشارة الزمنية عن الحرب العالمية الثانية على لسان يكن تعيدنا مرة أخرى لوضع المنظومة في ضوء جديد وأفق أوسع للرؤية مما كنا نراه في بداية اﻷمر، ففي ظل الخراب التام الذي حل بالعالم نتيجة لهذه الحرب الشرسة التي امتدَّت نيرانها ﻷغلب بقاعه، والموت المجاني الذي بات عنوانًا لهذه المرحلة، استتبع كل ذلك انتفاء ﻷي قيمة تذكر من وراء القيم الكبرى التي آمن بها اﻹنسان يومًا كالعدل والتسامح واﻷمان، فكل ما نراقبه من أحوال الحياة التي يعيشها اﻷبطال اﻷربعة للرواية (جوهر، يكن، الكردي، نور الدين)، هو رد فعل طبيعي في مواجهة عالم آخذ في اﻷفول والانهيار.

ولذلك، مع مجيء لحظة المواجهة المرتقبة بين الضابط نور الدين من جهة، وجوهر ويكن والكردي من الجهة اﻷخرى في منتصف الرواية، فإن البحث عن دليل وراء قاتل بائعة الهوى أرنبة، يتراجع ويصير هدفًا هامشيًّا، لصالح محاولة فهم المنطق الذي يُسيِّر هذه العُصبة، إنها مواجهة مجسدة بين العالمين القديم والجديد قوامها اﻷفكار، نور الدين يتحدث عما عرفه وألفه من قيم القانون والعدالة واجبة التطبيق والنفاذ، واﻵخرون يرون فيها مجرد أمر عبثي لا معنى له، خالقين ﻷنفسهم قانونهم الخاص حيث التخلي طوعًا عن كل معوقات الحياة من قوانين وأحكام مسبقة بالية في سبيل نشدان حياة متحررة من كل هذا ولا يوجد فيها ما يخسرونه.

ومن هذا المنطلق، نفهم على مهل المنطق وراء الحياة المتقشفة التي يحياها جوهر، هي حياة بلا قيود - على حد تعبيره؛ بلا زوجة ولا أولاد، أومصدر ثابت للدخل، وبلا أي شيء يملكه، ولا حتى أثاث بالمنزل. فهو يرى في الزهد نقطة قوة تُحسَب له في معركته مع هذا العالم الذي ينهار دون توقف، ويصير بذلك أكثر خفة دون حمول تثقله حينما يحل الطوفان القادم الذي يتمثل رمزيًّا في هذه الرواية من خلال القنبلة الذرية، وهذا المنطق يتلاقى بشدة مع حياة ألبير قصيري نفسها في الكثير من التفاصيل، بل إن شخصية جوهر تمثل انعكاس لحياة ألبير؛ فهو لم يتزوج سوى مرة واحدة، وهي زيجة لم تدم طويلًا، ولم يضطر للعمل في حياته، ولم يمتلك منزلًا، حتى إنه قضى حياته في غرفة بأحد الفنادق.

أما عن الشخوص الثلاثة الرئيسة اﻷخرى، فتختلف طرائق تفاعلهم مع هذا العالم وتتفاوت مستوياته كذلك، بالنسبة لـ"يكن" الشاعر، فهو يحاول محاكاة أسلوب حياة أستاذه جوهر إلى حد ما، متخذًا إياه قدوة له في الحياة، وإن كان يطمح فيما هو أكثر حتى مع اقتناعه باستحالة حصوله على ما يتمناه، كالحب من النظرة اﻷولى الذي وقع فيه مع فتاة ثرية لا يعرفها ويدرك جيدًا أنها لن تبادله الحب بسبب فقره وقبحه، فوجد في الشعر والصعلكة والمخدرات أمور تعويضية لما يعجز عن الوصول إليه.

أما "الكردي" الذي يقر بأستاذية جوهر له، فهو يفكر بمنهج مغاير عنه تمامًا، ويطمح ﻷن يكون صوته مسموعًا، وفعله مؤثرًا، مما يجعله أكثر صدامية مع العالم، وذلك بأن يكون ثوريًّا، أو أن يبدو ثوريًّا، مما يحوله إلى شخص مدعٍ للثورية والنضال أكثر من ممارس لهما على أرض الواقع، ويتحيَّن كل فرصة ﻹظهار الصدام والتحدي مع أي ممثل للسلطة حتى ولو بدون داع، مثلما حدث بينه وبين الضابط نور الدين خلال التحقيق على خلفية جريمة القتل، إضافة إلى محاولته ادعاء التحرر والانفتاح والتقدمية في العلاقة مع المرأة بينما تشي تصرفاته بأن المرأة بالنسبة له ليست سوى أداة للجنس.

الضابط "نور الدين" هو أكثر الشخوص جميعًا ممن اختلجت صدورهم بالصراعات المركبة مع الواقع: يحاول الحفاظ طيلة الوقت على صورة وهيبة الضابط كما عرفها وتعلمها، لكن هذا لا يعود عليه بالاحترام والتقدير اللذين يرغب فيهما، مما يضطره إلى اللجوء للصوت العالي والعنف إن لزم اﻷمر، تعويضًا عن نقص التقدير. يطنطن بالحديث عن القيم والمثل العليا التي يمثلها، بينما تخونه القدرة على اﻹقناع؛ خاصة مع جوهر وعصبته ممن كونوا منظومة قيمية تخطَّت المنظومة التي يحاول نور الدين الحفاظ عليها باسم القانون. يدَّعي امتلاكه لقضية بينما يطمح في الباطن لحياة متحررة من المسؤوليات والالتزامات على غرار حياة جوهر. سلطته الشُّرطية تصير بلا معنى أمام تفاصيل حياته السرية كرجل ذي ميول مثلية، ومحاولاته الحفاظ على علاقته بعشيقه سمير. فهو رغم الصورة المثالية الظاهرية التي يستمدها من سلطته، إلا أنه يخفق دائمًا في الحفاظ على سلامه الداخلي على مستوى العمل والحياة والحب.

كل الرغبات المكبوتة والمطمورة للشخصيات تجد لنفسها متنفسًا في هذا الاقتباس الجديد بمساعدة الفنان جولو الذي اقتبس ورسم هذه النسخة المصورة من "شحَّاذون نُبلاء"، والتي لم يجد بعضها بطبيعة الحال الفرصة في  الظهور في الاقتباس السينمائي المشار إليه مسبقًا، وتمت الاستعاضة عنها ببدائل أخرى لا تصطدم مع الرقابة، لتسير هنا بفضل جولو أحلام اليقظة والكوابيس وهلاوس الحشيش جنبًا إلى جنب مع مواكبة أدق تفاصيل الحياة القاهرية في حقبة اﻷربعينيات، والتي ألم بها من إطلاعه العميق على أدب ألبير قصيري وإقامته في مصر منذ السبعينيات.

وربما تكون هذه هى المرة اﻷولى التي نجد فيها ترجمة موفقة لعمل من أعمال ألبير قصيري، حيث واجهت كافة أعماله ترجمات غير موفقة بسبب تعامل المترجمين مع قصيري على أنه كاتب أجنبي يكتب عن مصر، بينما أدركت المترجمة منى صبري تلك المعضلة، وتعاملت معه على أنه كاتب مصري يكتب عن مصر بلغة أجنبية، فعليها فقط أن ترد اﻷمر إلى أصله بحيث لا يصير الوقع غريبًا على القارئ المصري كما حدث مع الروايات التي سبق ترجمتها، ووضحت معالم نجاح هذه الترجمة في الحوارات بالذات، حيث اهتمت بانتقاء ألفاظ عامية تتوافق مع السائد في قاهرة اﻷربعينيات، ومراعاتها للألفاظ الفصيحة الدخيلة على حوارات الشخصيات لتتماشى مع تصنعهم الكلامي المقصود دراميًّا بفضل تكوينهم الثقافي المختلف عن بقية الشخصيات التي تتحدث عامية صرفة، وموازنة هذا وذاك في النتيجة النهائية.

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم