في أثر عنايات الزيات.. في الرقاع وفي القلوب


في أثر عنايات الزيات.. في الرقاع وفي القلوب

الكاتب: محمود راضي

 

 

كانت المرة اﻷولى التي أسمع بها عن الكاتبة الراحلة عنايات الزيات، وعن روايتها الوحيدة (الحب والصمت) التي نُشرت بعد وفاتها منتحرة، وتحولت إلى فيلم سينمائي لاحقًا، حين أعلنت الشاعرة والأديبة إيمان مرسال أن موضوع كتابها الجديد سيكون "سيرة حياة عنايات الزيات"، وقد طال انتظار القراء لصدور هذا الكتاب قرابة عام ونصف، حتى صدر مؤخرًا عن دار الكتب خان.

لا أستطيع القول إني أحببت رواية (الحب والصمت) كثيرًا وقت قراءتها، حتى مع وضع السياق الزمني للرواية في اعتباري خلال القراءة. لم أستسغ مفهوم الرواية العتيق عن الرومانسية، واللغة واﻷسلوب الكتابي اللذان عفى عليهما الزمن. فضلًا عن نمطية حبكة الأحداث التي توقعت أغلبها بسهولة. لكن مع صدور كتاب إيمان مرسال، شيء ما قد تغير في نظرتي لهذه الرواية، صحيح أن هذا التغيير لم يؤثر كثيرًا على تقييمي لها، لكني بتُّ على دراية أكبر بالظروف التي أحاطت بهذه الرواية وقت كتابتها؛ سواء الظروف الشخصية للكاتبة نفسها، أو ظروف العصر الذي عاشت فيه، وفي القلب منه ظروف الوسط الثقافي الذي كان موجودًا وقتها.

في قالب يجمع بين الرواية التوثيقية والبحث الاستقصائي وشيء من السيرة الذاتية، حاولت إيمان مرسال في كتابها (في أثر عنايات الزيات) إعادة تركيب حكاية عنايات الزيات من عشرات الشذرات التي صادفتها في رحلتها، محاولة الوقوف على سبب سقوطها التام من ذاكرة الكتابة اﻷدبية في مصر في العموم، ومن ذاكرة الكتابة اﻷدبية النسائية على وجه الخصوص، خاصة مع كل الجهود التي عملت على توثيقها بكل جدية.

لم تترك إيمان مرسال خيطًا مهما بدا واهيًا وغير ذي صلة بحكاية عنايات، إلا واقتفت أثره في سبيل إعادة بناء حكايتها وكتابة سيرتها: شهادات مَن عاشوا مِن اﻷصدقاء واﻷقارب وزملاء الدراسة، وعلى رأسهم الفنانة نادية لطفي، وما كُتب عنها في الصحف، والشارع الذي عاشت فيه، ومدفنها، وشجرة عائلتها، ومركز اﻵثار اﻷلماني الذي عملت به، ومشروع روايتها الثانية الذي لم يرَ النور، وأوراق قضية الطلاق، والمستشفى التي عولجت بها.

نجحت كل هذه الشظايا - التي عملت إيمان مرسال لسنوات على جمعها من كل حدب وصوب - في وضع الكثير من النقاط فوق الحروف حول حياة عنايات، وحول روايتها الوحيدة التي وضعت عليها جُلَّ آمالها لعلها تنقذها من يأسها واكتئابها الشديد، خاصة وقد كانت في مقتبل عمرها، وتحمل في قلبها الكثير من اﻵمال العريضة. 

في رحلتها القصيرة مع الحياة كانت عنايات تحاول جاهدة البحث عن طريقة للتواصل مع البشر، لكنها - على ما يبدو- لم تتمكن من النجاح في ذلك تمامًا، في عقلها كانت تصطرع الكثير من النوازع واﻷفكار والهواجس المجردة، والتي حاولت أن تجعلها ملموسة أكثر، فلم تجد وسيلة لذلك سوى الكتابة لتبوح بشيء مما يعتمل في نفسها.

شيء آخر ساهم في سقوطها من الذاكرة الجمعية للأدب المصري: لم تكن عنايات مشغولة بقضايا كبرى أو مشاكل اجتماعية، كما كان المزاج العام السائد مهتم وقتها، كان همها اﻷول هو أن تحكي شيئًا من قصتها الشخصية لعلها تجد أذنًا تسمع، وبما أن الحكاية لا تكتمل إلا بوجود مستمع مهتم بسماعها، كان اليأس هو ما ألقى بها إلى حتفها حين رُفضت الرواية، وأعرض الجميع عن سماعها.

في النهاية سيمنحك الكتاب الشعور بالحب والتعاطف تجاه عنايات، ستفهم دوافعها حين تلمَّست بالكتابة سبيلًا للحكي والمناجاة، وتوقها ﻷن تُسمع وتقول "ها أنذا"، مهما كانت النتيجة النهائية لما تكتبه.

 

 

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم