كتاب المراحيض.. دخول إلى المنطقة المحرمة




كتاب المراحيض.. دخول إلى المنطقة المحرمة

إعداد: محمد خيري الخلَّال

 

عادة ما تكون المراحيض مناطق مكتظة بالبذاءة.. مناطق غير مأهولة.. نتقاسم أسرارها المحظورة جميعًا ولكن بصمت مطبق.. يتوحد فيها الإنسان مع أدنى الحيوانات وأكثرها بدائية.. لذلك بدا (كتاب المراحيض) للقاص والروائي العراقي لؤي حمزة عباس، صادم بعنوانه وشكله وشخوصه ودخوله بلغة جريئة إلى المنطقة المحرمة السرية، وولوجه إلى عالم القبح.. إنه تدوين من نوع خاص، وكتابة في هامش الهامش، فيما نستحي تدوينه أو الكشف عن سرّه.. ومحاولة للإيغال في اللامألوف والغريب وربما المحرّم اجتماعيًا ولغويًا.. وبحثًا في بشرية الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي ينشئ فوق الأرض أبنية يتخذها مراحيض يمارس فيها، وفي عزلة تامة، فعلًا يشترك فيه مع أغلب الحيوانات.

وعلى عكس معظم الكتابات التي عادة ما تؤكد على الجزء العلوي من الإنسان بوصفه مالكًا لناصية الفكر التي تميزه عن بقية الكائنات غير المفكرة..  فقد قلب لؤي حمزة في كتابه المعادلة التقليدية للسرد رأسًا على عقب؛ فبدأ من المرحاض صعودًا إلى المؤخرة، فالفم فالرأس المفكر.. وعمد إلى وصف ما اعتاد الروائيون على تجنب وصفه.. لذلك سيجد القارئ أجزاء من حياته متجسدة فيه فلا يملك إلا أن يهز رأسه لأنه قرأ ما لم يعرفه عن نفسه.. فكل مَن سيقرأه سيستعيد خبرته الشخصية، وذلك فضلًا عن إمكانية أن يفهم الفعل على أنه فعل رمزي ساخر يوطىء لفهم الذات البشرية في ضوء وجودها الواقعي.. المعرى من إكسسوارات القيم أو ادعاءات العظمة.

من الممكن التعامل مع الكتاب كقصص قصيرة جدًا أو ربما كرواية فيها من الحكايات والإشارات... فالكتاب يتأرجح بذكاء بين (الكتاب) و(الرواية) .. فهو يتجاوز حدود المكان وحدود النوع الأدبي وقيمه الخاصة ويعلن انتماءه منذ أول الفصول إلى المناطق غير المأهولة في النصوص الأدبية.. أما الشكل الذي ظهر عليه فهو (مدخل ومخرج) وما بينهما عدد من (الفصول والوقوف والوصول).. وهذا الشكل يحاكي شكل الكائن البشري؛ الذي يبدأ بمدخل وينتهي بمخرج ، مع الاهتمام بالجزء السفلي كما يشير عنوان الرواية.. ليجرد الإنسان من هالة القدسية، ومواجهته بحقيقة كونه ذلك الجزء المحصور بين المدخل والمخرج.

اللغة المكتوبة بها نصوص الكتاب تتسامى برقيها وأدبها وعبقها لكي لا تمتلك من العنوان إلا صدمته.. فالكتاب قد أُنجز عبر أداء كلامي فيه شيء من الفخامة ورصانة البناء. وإذا انتقلنا إلى شخوص الرواية، فلا نجد شخصية رئيسية وأخرى ثانوية؛ أي لا بطل في هذه (الرواية/ الكتاب) ولا مناويء له.. فكل الأبطال تصغر أمام فعل الإفراغ المستمر في أماكن غاية في السرية والحصانة.

يأخذنا الكتاب في جولة بانورامية حول أنواع المراحيض.. حيث ينتقل من مراحيض الأسرى والمومسات، إلى المراحيض المكشوفة وكلامها المسموع، ومراحيض قاعة الإعدام، إذ يبدو الباب مفتوحًا، ومراحيض العزاءات، ومراحيض غسل الموتى، ومراحيض الكتابة.. إلى مراحيض الجنود ونتانتها، وصولًا لنتانة الحروب بكل قسوتها.. وبين نتانة الحرب ونتانة المراحيض فاصل ربما نعود بعده نحن أو لا نعود، والجنود من الذين لا مرحاض لهم يعيشون هموم المعارك وهموم تفريغ ما في بطونهم من نتانة في ساحات الحرب.. التي تبدو كل مظاهر الوجود فيها وكأنها مراحيض؛ الملاجيء، والمزابل، والأنفاق، والمخافر، والمواخير، بل وحتى المُعتقلات.

أجهد الكاتب نفسه في جمع المعلومات الوثائقية والتاريخية عن ثقافات العالم وفي النبش في الماضي العربي واستخرج مواقف وحوارات لها امتدادات في الفكرة الرئيسية لعنوان الكتاب.. بل إنه أجهد نفسه في جمع كتابات كتبها العابرون المستخدمون للمراحيض فيها الكثير من الطرائف واللطائف والغرائب.

كما يقول المؤلف ليس المراحيض كتابًا في القباحة والإباحية، وليس بابًا يقود إلى العدميّة والحطّ من منازل الجمال، بل هو كتاب يجعل من موضوع الهامش طريقًا للكشف عن كوامن الطبيعة الإنسانية.. إن تاريخ المراحيض هو تاريخ مسير الإنسان من الوحشية إلى التمدن والرُقي.. فالحضارة في أحد أوجهها إضمارًا هي الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع المرحاض، لأن في إتقاننا لاستخدام المرحاض دليل على وعينا بقيم الحضارة.

وأخيرًا يمكن القول بأن لؤي حمزة عباس بهذا الكتاب قد أنجز تأسيس إتجاه كتابي جديد و حقق نقلة مهمة في الكتابة القصصية.. إن الفنان فحسب هو ما يجعلنا نحدق عن كثب في خفايا القبح والبذاءة بحثًا عن الجمال فللقبح جمالياته أيضًا.. فمَن غير لؤي حمزة عباس يجرؤ على إغراق جسد لغته بأحواض المراحيض بكل ما تختزنه من مقموعات وتواطؤات محظورة!

 

***

مقاطع من الكتاب:

 

ـ تسهم المراحيض لتحقيق فكرة الوطن، فالوطن، في نهاية الأمر؛ هو المكان الذي يلبي أقدم متطلباتنا الجسدية بيسر وأمان، والمكان الذي لا نملك فيه فضاء خلوة خاصًا يصعب أن يكون وطنًا.

ـ ونفكر بالمرحاض لنصل إلى الحقيقة المدينية المؤلمة: كل الغرف قابلة للتحويل وتغيير الوظائف بلا قيود إلا غرفة المرحاض، إنها تتحول باتجاه واحد دائمًا، تجاه السجن.

ـ هل يحرك المرحاض, بوصفه ملاذًا حسيًا, شعورنا بالرضا والاطمئنان؟ وهل يقودنا, عبر الاندماج بما صُمِمَ له من وظائف, إلى مصالحة ذواتنا وهي تتخفف مما حُمِلَت أجسادنا من أدران؟

 

***

كتاب المراحيض: رواية تعرُّف.. تأليف: لؤي حمزة عباس

دار المُعقدين بالبصرة/ العراق

 

(*) اعتمدت هذه القراءة على مقالات لـ عبد الجبار العتابي، قيس كاظم الجنابي، د.علي المرهج، رمضان مهلهل سدخان، باقر جاسم محمد، د. خالد شاكر حسين.

 

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم