شوق المُستهام بكنوز مصر المفقودة




شوق المُستهام بكنوز مصر المفقودة (*)
إعداد: محمد خيري الخلَّال

تهتم الكاتبة المصرية "سلوى بكر" في كتاباتها بالمسكوت عنه تاريخيًّا ـ وما أكثر المسكوت عنه عبر تاريخنا الممتد ـ وتعيد النظر في أسئلة التاريخ، التي سئُلت منذ أزمنة قديمة وتلقينا عنها إجابات ظلت مستقرة، واطمئننا إليها طوال الوقت ولم نعد نتساءل عنها مرة أخرى.

وفي محاولتها لإعادة اكتشاف الهوية المصرية في علاقتها بالماضي والحاضر.. تلتقط  سلوى بكر جوانب مجهولة من التاريخ وتحاول استعادة جزء من الحقيقة التاريخية والاجتماعية الغائبة، وتبث فيها حياة جديدة في سياق روائي حديث، إذ تغوص في الماضي  منطلقة من الحاضر، بينما تعمل طوال الوقت على تقديم نسيج سردي متماسك، يربط هذه العوالم والأزمنة المتباعدة برباط الخيال الحر الطليق، والموهبة الأدبية الأصيلة.

وفي روايتها "شوق المستهام" الصادرة عن مركز الأهرام للنشر.. تنتقل بنا سلوى بكر إلى منتصف القرن التاسع الميلادي، لتحكي لنا قصة الراهب المطبب الشاب "أمونيوس" المولود في قرية "قربيط" بدلتا مصر، والذي وهبه أبوه إلى دير "مريوط".. وبعد مرور ست سنوات قضاهم منقطعًا في الدير يتلقى رسالة تخبره بمرض أمه فيذهب لزيارتها ليفاجأ في القرية بإصابة أخته "تكلا" بالعمى نتيجة وباء أصاب الجميع واجتاح بلدات كثيرة.. ليجد أمونيوس نفسه عاجزًا أمام مرض لم يعرفه على الرغم من علمه بالطب ودراسته في الدير.. ولم تعد تجدي معه العلاجات التقليدية ولا التعاويذ الدينية.

هنا يقرر الراهب الاستعانة بعلوم الأقدمين في مواجهة ذلك الوباء.. ويبدأ في رحلة للبحث عن علاج له في ”كتابات متروكة وصحائف مجهولة“ كتبها السابقون.. ويسعى للتنقيب عنها في بيع وأديرة ومعابد فرعونية من شمال مصر إلى جنوبها.. حيث المعارف القديمة مختزنة في برديات الطب القديمة المدون عليها الوصفات الطبية.. الكنز المدفون في كتب ولفائف وبرديات الأقدمين.. والذي يحوي كنوز مصر الخفية والتي لا هي الذهب أو الفضة وإنما ما كُتب في البرديات واللفائف والوثائق من كتابات تنتمي إلى الماضي وتحوي الحكمة والعلم والمعرفة.

وخلال رحلته للبحث عن المخطوطة التي كان يأمل أن يجد فيها علاجًا للوباء ـ والتي شملت مدينة سمنود في محافظة الغربية الشمالية ومدينتي أون ومنف في عاصمة البلاد ـ تنقل إلينا الرواية حكايات كثيرة عن مصر والمصريين على لسان رفيقه في الرحلة "أبانوب" الذي يقوده في رحلته ويحكي له أثناءها عن تاريخ مصر، وتاريخ الإغارات والغزوات على مصر على مر الأيام والسنين وحتى دخول عمرو بن العاص.

كما تتناول الرواية صداقة الراهب أمونيوس بالشخصية التاريخية ذات الوجود الحقيقي المعروف بـ"ابن وحشية"؛ وهو النبطي الكلداني الأصل الذي أتى إلى مصر في القرن الثالث الهجري حبًا في المعرفة.. وقد استُمدَّ عنوان الرواية من اسم كتابه: (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام).

وكان ابن وحشية مولعًا بالكيمياء والسحر وفنون السيمياء ومولعًا أيضًا بالبحث عن كل ما اندثر وضاع وانضمر منذ وقت بعيد.. كان متبحرًا في العلم ضليعًا في المعرفة باللغات، واسع التمكن
في الفلك وأسراره، عارفًا بالحروف القديمة والرسومات والخطوط.

وكان لقاء أمونيوس بابن وحشية النبطي فرصة لقلق فكري وعلمي، دفع الشاب للتساؤل عن اللسان المندثر للمصريين وكيف وقعت القطيعة مع لغة القدماء ”بينما ألسنة الإغريق واللاتين كانت شائعة بيننا إلى وقت قريب حتى أن صلواتنا كأهل للمسيح ما زالت تقام في بعض البيع بهذا اللسان“.

وتسجل الرواية من خلال رحلة أمونيوس ما تعرضت له معابد مصر الفرعونية من تخريب وإهمال؛ حيث استخدم الناس حجارتها في بناء المنازل والكنائس، كما كانوا يستخدمون أوراق البردي كوقود.. كما استباحها الغزاة  والذي منهم "نبوخذ نصر" الذي سرق الهيكل الكبير في مدينة منف وما يضمه من آنية ذهبية ومقتنيات نفيسة في القرن السادس قبل الميلاد كما ”سرق ما به من كتب كثيرة كانت تضمها مكتبته“ وساق الكهنة والأطباء وعلماء الهندسة والفلك إلى بلاده.

في الرواية رصد لتاريخ مصر القديم والحضارة الفرعونية وللحضارات القبطية والإسلامية بكل تجلياتها ولحظات انتصارتها وانكساراتها.. وتتداخل مساحات الماضي والحاضر وتتقاطع في الرواية، فنرى عودة لما قبل الميلاد وإشارات إلى معبد "أمحوتب" إله الطب عند الفراعنة، وبردية "زويجا" الطبية المكتوبة باللسان القديم والمترجمة إلى اللغة القبطية أيضًا.

كما تتسأل الرواية عن أسباب تجاهل جوانب من التراث العلمي والفلسفي لحضارة مصر وتتفق مع طرح المفكر الأمريكي "جورج جي. إم. جيمس" مؤلف كتاب (التراث المسروق.. الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة).. حول سرقة بعض فلاسفة اليونان وعلمائها مثل "أرسطو" و"فيثاغورث" الكثير من المعارف والعلوم من المعابد المصرية ونسبتها لأنفسهم.

تشبه الرواية الملاحم القديمة وأفلام الطريق التي يخوض أبطالها تجارب ومخاطر من أجل الوصول إلى هدف.. وربما لا يبلغونه.. فبطلاها الاثنان يسعيان أحدهما كي يكتشف دواء والأخر كي يؤلف.. دفعهما شوقهما المستهام بالمعرفة والعلم وولعهما بالكمال .. فإذا بهما يلتقيان وتنشأ بينهما مودة وصداقة.. وفي عنوان الرواية مفتاح فهم شخصية الراوي الهائم والعاشق للمعرفة.


(*) استند هذا المقال على قراءات لـ: يسري عبد الله، ود.شاكر عبد الحميد، وسعد علي، وسماح عبد السلام.

إرسال تعليق

أحدث أقدم