الطاعون القرمزي.. عندما اجتاح الوباء العالَم




الطاعون القرمزي.. عندما اجتاح الوباء العالَم
الكاتب: وسام الدين محمد عبده

هل ينبغي أن نندهش عندما نعرف أن الكاتب الأمريكي «جاك لندن» الذي كتب «نداء البَرِّية» The Call Of The Wild (رواية المغامرات الأشهر في الأدب الأمريكي)، هو نفسه الذي كتب رواية كابوسية تنتمي لعوالم «ما بعد نهاية العالم» Post-Apocalyptic Fiction أو «ما بعد المحرقة»؛ مثل «الطاعون القرمزي»؟

قبل نحو خمس سنوات من كتابته لـ«الطاعون القرمزي»؛ جمع «جاك لندن» ما بين أسلوب مدرسة «الأدب الطبيعي» الذي يلتزمه، والتي تأثر كُتَّابها بالدارونية، وأرادوا أن يُقدِّموا أعمالًا أدبية غير تقليدية تُصوِّر العالم بواقعه القاسي المرير. واهتماماته الاشتراكية في رواية بعنوان «العَقبُ الحديدي» The Iron Heel: وهي رواية تتناول الصعود العنيف للأقلية المتنفِّذة في مجتمع «الولايات المتحدة»، ومن ثَمَّ تحوُّل هذا المجتمع إلى مجتمع «المدينة الفاسدة» Dystopia، وهي رواية رائدة وسابقة على روايات مثل رواية «1984»، ورواية «لا يمكن أن يحدث هنا» It Can’t Happen Here . وعلى العكس من «العقب الحديدي»، حيث تنتهي الحضارة بسبب التطور الجانح للرأسمالية، فإن «الطاعون القرمزي» تتضاءل فيها نبرة النقد السياسي، ويصبح دمار الحضارة نتيجة لكارثة طبيعية.

تدور أحداث «الطاعون القرمزي» حول الأستاذ «جيمس هاورد سميث»، الذي كان ذات يوم أحد أفراد النخبة الاجتماعية، وأستاذ للأدب الإنجليزي في جامعة «بيركلي» بـ«كاليفورنيا». والآن، أصبح أحد أفراد قبيلة بدائية تعيش بالقرب من أطلال ما كان يُعرف يومًا بـ«سان فرانسيسكو». وها هو يجلس إلى نار المُخيَّم، ويروي لأحفاده عن شكل الحياة قبل ستين عامًا؛ في تلك اللحظة التي اندلع فيها الطاعون واجتاح العالم.

والعالم الذي ينطلق منه «جاك لندن» إلى كابوسه، هو عالم «الولايات المتحدة» في سنة 2013، حيث يقطن الأرض ثمانية بلايين نَسَمة، و«الولايات المتحدة» أصبحت تحكمها قِلَّة متنفِّذة من خلال ما يُسمَّى بـ«مجلس الأقطاب» الذي يُكرِّس رأسمالية متوحشة تُقسِّم العالم إلى سادة وعبيد. وبالنسبة لرجل ينتمي إلى النخبة الاجتماعية مثل الأستاذ «سميث»، كانت الحياة طيبة. ولكن كل شيء بدأ يزول وينهار عندما ظهر الطاعون القرمزي في «نيويورك». كانت أعراض الطاعون طفحًا جلديًّا قرمزيًّا يظهر على الضحية، ثم يزحف عليه الموت في فترة قصيرة تتراوح ما بين عِدَّة دقائق إلى عدة ساعات. وراح الطاعون ينتشر بسرعة، وفشل العلماء في مواجهته، وأخيرًا وصل «كاليفورنيا».

ويحكي «سميث» لأحفاده عن كيف انهارت الأوضاع بسرعة في «بيركلي»، فقد ظهر الطاعون في الجامعة حيث يعمل، ثم راح يضرب في كل الأرجاء المحيطة. وفي هذه اللحظات نشهد بداية انهيار العلاقات الاجتماعية، فرئيس الجامعة يختبئ من «سميث» عندما شك أنه يحمل العدوى، و«سميث» نفسه يتنكر لأخيه عندما يكتشف أنه مُصاب بالطاعون.

وبينما ينشر الطاعون الموت في المدينة، تتكفل الفوضى وأعمال التخريب التي يقوم بها الرعاع بتدمير المدينة نهائيًّا. يبدأ «سميث» رحلة أوديسية طويلة بحثًا عن ملجأ في وسط كل هذا الدمار، وفي النهاية ينحصر الدمار، ولكن الحضارة تكون قد اختفت، ويصبح على «سميث» أن يواجه العالم المتوحش الجديد مع بضعة ناجين من بينهم «السائق».

على الرغم من الحبكة البسيطة لرواية «الطاعون القرمزي»، إلا أنها لا تزال رواية مخادعة، لن تستطيع سَبْرَ أغوارها من قراءة واحدة، فالرواية، تكاد تدور كلها حول شخصية الأستاذ «سميث». وهو باعتباره أحد أبناء النخبة الاجتماعية، فهو على وعي كامل بانعدام العدالة في مجتمعه، ومع ذلك، فهو لا يزال متمسكًا بتحيزات طبقته، حتى بعدما اختفت هذه الطبقة بعقود. فبينما يروي قصته، نستطيع أن نرى بوضوح أن «سميث» لا يتمتع بأية موضوعية، فهو لا يُخفي احتقاره لـ«السائق» على الرغم من أنه كان جَدًّا لأحد أحفاده، وهو يعتبر أنه ليس من العدل أن ينجو «السائق».

بالطبع، «سميث» مدين بنجاته لنفس الظروف التي تسببت في نجاة «السائق»، وليس لانتمائه للنخبة الاجتماعية في «سان فرانسيسكو»، ولا لعلمه الغزير بالأدب الإنجليزي، اللذين لم يكن لهما أي دور في نجاته من الطاعون، واستمراره على قيد الحياة بعد دمار الحضارة. بل لعل هذه الصفات التي يعتبرها خصائص بربرية لـ«السائق»، قد تسمح له بالتغلب على ظروف قد لا يستطيع «سميث» نفسه التغلب عليها.

ولكن «سميث» يستمر في ازدراء «السائق»، حتى بعد وفاته، ويتهمه بأنه قتل زوجته ضربًا تحت تأثير الثمالة، ويُرجع إليه غرس ثقافة العنف في نسله. وبينما يسترسل «سميث» في تحقير «السائق»، يغض الطرف عن أن هذا «السائق» وسلوكه هو نتاج لعملية «الانتخاب غير الطبيعي» التي قامت بها الآلة الرأسمالية المتوحشة، وهي العملية التي أدت إلى خلق طبقة وضيعة ساهمت في زيادة الأمور سوءًا عندما اجتاح الطاعون الحضارة.

وبالتوازي مع عملية «الانتخاب غير الطبيعي»، كانت هناك عملية «انتخاب طبيعي» تحدث، فمع التحول نحو الصناعة، والنمو العمراني، ووفرة الطعام المنتَج، كان عدد سكان الأرض الآخذ في الزيادة، مستهدَفًا من عدو خفي. فمرة تلو مرة، راحت الأوبئة الخبيثة تضربه، ومرة تلو مرة، تصدى لها علماء الجراثيم، وقضوا عليها، حتى جاء الطاعون القرمزي.

تُذكِّر رواية «الطاعون القرمزي» قارئها بأنه أيًّا كان التقدم الذي يحققه البشر، فإن مكانهم في العالم هش ومُهدَّد. فالتقدم العلمي، قد يكون قادرًا على توفير شروط أفضل للحياة، ولكنه في نفس الوقت يحتوي على ضعف في بنيته التحتية، وهذا الضعف سيؤدي ذات يوم إلى انهيار صرح الحضارة دُفعة واحدة، وهو ما يخلص إليه «سميث» في لحظة استشراق يقول فيها: «كل هؤلاء الرجال الذين كانوا يكدحون على كوكب الأرض، ما هم إلا فقاعات!».

وعلى الرغم من أن أدب «ما بعد المحرقة» لم يكن من ابتكار «لندن»، بل أُرسيت قواعده ونُشرت كلاسيكياته قبل أن يشرع «جاك لندن» في كتابة «الطاعون القرمزي» بفترة، إلا أن أحدًا قبل «لندن» لم يتصور انهيار الحضارة وارتداد الإنسان إلى البربرية كما فعل هو؛ وهي العناصر التي سوف تصبح من لوازم صنعة هذا النوع الأدبي فيما بعد.

إرسال تعليق

أحدث أقدم