أنا والكتب أو الكتب وأنا

أنا والكتب أو الكتب وأنا 

الكاتب: معاوية محمد نور

 

لا أدري أيهما أصح والله؛ أهو أنا الذي يكتب عن الكتب ويمتع قراءه بأحاديثها، أم هي الكتب التي تكتب عني الآن وتغريني ــ بما علمتني ــ أن أغري نفسي وأوضح مكان الضعف مني وأسخر من شخصي؟ أهو أنا الذي يحب الكتب ويهيم بها عشقًا ويعتبر نفسه القانص لها السيد عليها، أم هي الكتب التي تستهويني وتجعل مني أداة لضحكها وعبثها وسلوتها؟

لا أدري أيهما أصح والله!

ومهما يكن من أمر فلنعرض أمرها معي، وعلى الله السلوان:

لا أعرف على وجه التحقيق متى أحببت الكتب، ومتى هامت الكتب عشقًا بطلعتي البهية؛ ذلك ما لا يتيسر لي أمره الآن، ولكنني أدري أنني وصديقًا قديمًا لي حينما كنت في المدرسة الابتدائية، كنا نجمعها ونرصها ونفتخر بكثرتها ولا أقول قراءتها؛ فنحن قل أن نقرأها، وكل ما في الأمر هو: (عشق والسلام)؛ فكنت إذا زادت مجموعتي كتابًا واحدًا على مجموعته تهت عليه وشعرت بالفخر يملأ جوانبي، وبالفرح يشيع في كياني، وشعر هو بالمضاضة والألم إلى أن تتم مجموعته فنصبح متكافئين متعادلين.

تلك أول حلقة في قصة حبي لهذا الورق الذي يدعونه كتابًا، وهو كما ترى عشق مجنون لا عقل فيه، وأصبحت من بعد ذلك لا أهبط بلدًا، أو أزور مكانًا، إلا سألت عن مكتباتها وذرعتها كأنني موكل بذلك.

وقد أكون مفلسًا فلا أشتري كتابًا واحدًا، ولكنني لا أفتأ أزور المكاتب العمومية كل يوم إلى أن يضج أصحابها مني، ومن إفلاسي، ولكنني لا أفتأ أزورها؛ ذلك لأن لمرأى الكتب عندي سحرًا خاصًا يزري بكل سحر، ولطلعتها البهية فتنة تفوق فتنة الغيد الحسان، ولرائحتها الزكية وهي تخرج من المطبعة أريجًا يزري بأريج الياسمين!

كما أنه يحلو لي، بنوع خاص، أن أفتح الكتاب الجديد وأشم رائحة الأوراق وأنا أحتسي الشاي أو أدخن، وأعد كلّ ذلك متعة لا يجود الزمان بمثلها إلا في القليل النادر.

فإن اكتشاف كتاب جديد يقع من نفسي موقع القبول هو بمثل اكتشاف قارة لدى علماء الجغرافيا، أو اكتشاف حبيبة جديدة لدى محب عاشق، أو اكتشاف كنز مخبوء لسارق ماهر.

وليس أجذب عندي في المكاتب من معرض الكتب في الواجهة الزجاجية، وأروح متنقلًا أنظر إلى الغلاف اللازوردي لذلك الكتاب، ويستوقف نظري عنوان الآخر، ويحز في فؤادي أن لا أكون الكاتب لذلك، ويشتد حنقي على ذلك المؤلف لأنه عالج نفس الموضوع الذي كنت أُعنَى بالكتابة عنه، ويشتد حزني أنني لا أستطيع أن أمتلك ذلك الكتاب وأنظر إلى غلافه على الأقل. وتلك مجلة حلوة؛ هي الأخرى فيها أفانين من القول والبحث لا يجدر بي أن أجهلها.. وذلك الكتاب عن الموسيقى.. آه نعم الموسيقى.. ألا يجدر بي أن أتكلم عنها وأتحدث عن أساليبها عن دراية وفهم.

فأتصور نفسي بين جمع من الإخوان أحاضرهم في كبرياء ولوذعية عن السوناتات وبيتهوفن وعن الهارموني و الميلودي والحركة، وأين يختلف فن شوبان عن فن فاجنر الذي يكثر فيه التفكير وتقل العاطفة إلى آخر هذا الادعاء الرفيع..!

وذلك الكتاب عن التصوير عن.. آه التصوير يا حبيبي هو كل شيء.. الفن.. الفن.. يا صديقي، والحديث عن التظليل، والتلوين والحركة، في فن هستلر و ديجاس وأضرابهما.

كيف يمكنني أن أعد نفسي مثقفًا من غير معرفة أشباه هاته الأشياء؟! وأروح أتصور نفسي بين جمع حاشد وأنا أهذي بهذه الكلمات الرفيعة وكلهم آذان صاغية وأفواه فاغرة تلتهم ما أقول.

نعم، تلتهم ما أقوله أنا!

ثم يا صديقي لا يكفي الإنسان أن يعرف الأدب العربي أو الإنجليزي أو الفرنسي ليصبح أديبًا واسع الاطلاع، ولابد من معرفة الأدب التشيكوسلوفاكي، والبولندي، والدنماركي، و أدب بلاد الهوتنتوت، والمكسيك، وبلاد واق الواق.. ضروري كل ذلك.

ولكن أين هي النقود؟

لعن الله النقود!

ثم الوقت، لعن الله الوقت.. هل يسمح بقراءة كل ما أريد قراءته؟ لا؛ إنه لا يسمح، ولكن ذلك لا يجب أن يقف في سبيل اقتنائي وجمعي لها وهيامي بها.. يكفيني أن تكون في مكتبتي أنظر إليها وأمتع ناظري بصورتها، وقد أنام أحيانًا فأحلم أنني قد قرأتها من الدفة إلى الدفة، وعرفت كل ما فيها ونقدته وعلقت عليه وأي حاجة لأن أقرأها بعد ذلك.

وهكذا إذا ما أردت أن أقرأ كتابًا ضخمًا لا يسمح الوقت بتصفحه نمت فقرأت في الحلم (ليس معنى هذا أيها القارئ العبقري أن تنام فتحلم فتقرأ؛ فقد لا تسعفك الأحلام).

وكثيرًا ما أشتري الكتاب فإذا اطمأنت نفسي إلى أنه ملكي لم أزعج نفسي بقراءته شأن الكثير من القراء، ولكنهم لا يقولون ذلك، وأنا بعد كل ذلك لا أفتأ أشكو لأصدقائي قلة كتبي وضيق ذات اليد، وأروح المكاتب فأقضي سحابة يومي أقرأ هناك ـ من غير أجر طبعًا ـ وصاحب المكتبة يعتقد في بادئ الأمر أنني سوف أشتري، فيصبر ويسألني حاجتي ويلح في السؤال، غير أني أصرفه عني بأنني أعرف ما أريد، فإذا اتضح له أمري ضاق ذرعًا بي، وحرم عليّ المجيء مرة أخرى إلى مكتبه وطردني.

وأنا بعد كل ذلك لا أعرف ما السبب في كل ذلك النهم الذي ليس له مبرر؛ تُرى هل لي بطن آخر لا يأكل إلا الكتب ولا يجوع إلا في حضرتها؟!

وأغرب من ذلك وأدعى إلى الدهشة أن القراءة لا تحلو لي إلا في مكتبات الأسواق والصحاب، فإذا خلوت إلى مكتبتي الخاصة ـ نعم ـ عندي مكتبة خاصة أيها القارئ ولا أكذب ـ تركتها سريعًا وقفلت راجعًا إلى مكتبات الأسواق، وإذا قدر لي الجلوس في مكتبتي مللت، فأغمضت عيني فنمت فقرأتها كلها في الحلم اللذيذ!

وكثيرًا ما أخدع نفسي ـ وأنت أيضًا أيها القارئ قد تخدع نفسك ـ أنني قد قرأت كل ما بالمكتبات التي في السوق، لأنني قرأت العناوين وعرفت أسماء المؤلفين، فإذا قرأت المقدمات والفصول النهائية فقد قرأتها جيدًا، وأستطيع نقدها وتحليلها وتمزيق مؤلفها إربًا إربًا.

وأنا لو أدمنت القراءة في لون خاص من ألوان الأدب والثقافة، خُيّل إليّ وكبر في وهمي أنني أهدر الوقت بما لا فائدة فيه ولا غناء منه، وأن هنالك من الكتب ما هو أجدر بالعناية والمطالعة، فإذا قرأت كتب الجد خُيّل إليّ أن مجلات السينما وما إليها أشياء لا يجب أن تفوتني ولا تكمل حياتي من غير معرفتها، فأروح أشتري منها الكفاية إلى أن أملها!

وإذا أكثرت من القراءة خُيّل إليّ أنني أستطيع أن أكتب، ولابد أن أجرب نفسي في تلك الساعة التي يخطر لي فيها ذلك الخاطر المقلق، فإذا كنت أكتب وددت لو أنني كنت أمتع النفس بالقراءة الساكنة الحلوة. وإذا أكثرت من القراءة خًيّل إليّ أنني سخيف ليس لدي توازن وأن في الحياة، غير القراءة والكتابة، فإذا لهوت رجعت أعقابي ومللت حياة التبطل واللهو بأسرع من لمح البصر، فإذا كنت في الكازينو أنظر إلى وجوه الحسان من الراقصات تشوقت حرقًا لوجه شوبنهور الجميل وقوام سقراط النحيل، وقد ألعن شوبنهور ووجهه الدميم في ساعة أخرى وأفر هاربًا منه ومن أصحابه الثقلاء.

والقارئ الذي يُعنَى بأن يكون في يوم من الأيام كاتبًا لا يمكنه أن يكون قارئًا كاملًا، لأنه بدلًا من أن يفقد نفسه في الكتاب فيستلذه ويستفيد. يزداد شعوره بنفسه وبعجزه عن الكتابة مثل هذا الكاتب، ويحاول أن يعرف كيف أدار الكاتب تلك الجملة وكيف نجح في بسط ذلك الرأي. وبالاختصار يعذب نفسه ويرهقها؛ فمن أصعب الأمور أن يقرأ بالتذاذ مَن يُعنَى أن يكون كاتبًا في يوم من الأيام!

فقد كنت أحاول ـ وأنا طالب في الجامعة ـ أن أقرأ المكتبة؛ ياللجنون!! فكنت أذرعها كل يوم من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال، فتجدني في بعض الأيام لا أقرأ ولا أتكلم إلا عن السيكولوجيا وفي أونة أخرى كتب الرحلات والمذكرات وما إليها، وقد أترك كل هذا لخاطرة، فأروح أدرس الكهرباء أو الجهاز العصبي أو نظام التغذية، وأدرس هذه الأشياء في الأيام الأولى بحماس شديد وسرعان ما يذبل هذا الحماس، فأنقلب أقرأ شيئًا آخر، وقد يكون عن التراجم أو خطابات العظماء ويومياتهم أو عن التربية إلى أخر ما كتب الكاتبون وطبعت المطابع.

وقد أغضب أحيانًا لهاته الحالة النفسية الشاذة، وهذا الغرام الأعمى بالكتب فأحبس نفسي يومًا كاملًا عن المكتبة لا أزورها فيُخيّل إليّ أن الكتب الجديدة من روسيا وألمانيا قد أتت فجأة؛ نعم فجأة أيها القارئ، إياك أن تضحك، فأروح مسرعًا في صبيحة ذلك اليوم إلى المكتبة وأبدأ عملية ذرع!

لا حول ولا قوة إلا بالله ـ ماذا تقول في هذا؟!

أهو جنون؟ نعم؛ هو كذلك.

ولكنه جنون لا دخل لي فيه، ولا سلطان لي عليه.

 
 

إرسال تعليق

أحدث أقدم