الرواج أم القيمة الأدبية.. قراءة في «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق



الرواج أم القيمة الأدبية.. قراءة في «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق (*)
الكاتب: ممدوح فرّاج النابي

 

 

في ظلّ الانهيار المتلاحق لسُلَّم القيم لكافة مناحي الحياة، وتدهور الذَوق ظهر في الأوساط الأدبيّة (بالطبع الغربيّة أولاً ثمّ انتقل إلينا) مصطلح البيست سيلر أو الرِّوَاية الرَّائجة وفْقًا للترجمة المتداولة، وإنْ كُنا لا نُنْكِرُ أنّ أصحاب هذه الرِّوايات حقّقوا مبيعاتٍ وأرقامًا قياسيَّة في سوق التوزيع، مع أن الحُكْمَ على مصداقية هذه الأرقام قابل للتشكيك لخلو الإحصاءات السّوسيولوجية منها، وخاصّة إذا عرفنا أن سوق النَّشر في العالم العربيّ بصفة عامة ليس بالرائج، فعدد الطبعات لا يتجاوز الـ 100 نسخة (بناءً على تصريح أحد الكُتَّاب) هذا في حالة إنْ كان اسم الكاتب ذا صَدىًّ وقابل للتوزيع، وَمِن ثمَّ فلا يعوَّل على هذه الأرقام التي تشير إلى تعدُّد طبعات الرِّوايّة لدرجة أنّ إحدى الرّوايات صدرت طبعتها الثانية في نفس يوم صدور الطبعة الأولى، في سابقة لم تَحْدُثْ، وإنْ كانت تؤكِّد على حالة العبث التي تواجه سوق النَّشْر وفوضاها، وهو ما نرى نقيضه في بعض الدول الأخرى؛ ففي تركيا ـ على سبيل المثال ـ تعتمد دور النشر فيها بلا استثناء على تثبيت عدّاد إحصائي على كل رواية وهو ما يشير إلى رقم النسخة التي بين يديك، كما يعدُّ وسيلةً لتأكِّيد صِدق أرقام التوزيع، وفي ذات الوقت وسيلة افتخار للكاتب الذي يُعلن بفخر عن أرقام توزيع رواياته الحقيقية، كما هو حال روايات أورهان باموق وأليف شفق باعتبارهما الأكثر مبيعًا في تركيا، رغم الملاحقات الأمنية لهما، لكن لا ينفي هذا أن لهما جمهورهما الذي يتسابق للحصول على النُّسخ الأولى من إصداراتهما، وهو ما جعل أعمالهما تتجاوز الأرقام غير المسبوقة في التوزيع، كما هو مسجَّل على غلاف الرواية، إضافة إلى ما تخصّصه الصُّحف من نشرات أسبوعيّة عن سوق الكتب وأرقام التوزيع، وهذا غير متوفر لدينا مع الأسف.

 

(1)

 

في العالم العربي تتردّد عبارات أبعد عن الواقع، إلا أنّ أصحابها في ظلّ غياب المعلومات الحقيقيّة يروِّجون وَفْقًا للعلاقة المريبة بين الصَّحَافة الأدبيّة والكُتَّاب، مُصطلحات كالأفضل مبيعًا والأكثر رواجًا، وصدور الطبعة الخامسة والسَّادسة في غضون شهر من صدور الطبعة الأولى. فصار علاء الأسواني يتجاوز نجيب محفوظ وعمالقة الأدب قاطبة في سوق التوزيع وتوالي الطبعات، وغدت روايات أحمد مراد مبتغىًّ للجميع وتتنافس عليها دور النشر والمنتجين. لكن السُّؤال الأهم هل ثمّة علاقة بين الأكثر رواجًا وبين القيمة الأدبية؟

طُرِحَ هذا التَّسَاؤُّل من قبل العديد من النُّقَاد العرب، وأيضًا المترجمين كروجر ألن (رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة بنسلفانيا)، وقد أجمعوا على أن ثمَّة تباينًا بين الأكثر رواجًا والقيمة الأدبيّة، وليس بالأهمية بمكان أن يمثِّل الأكثر رواجًا للأفضل قيمة إبداعيًا؛ متخذين مِن نموذج رواية «بنات الرياض» لرجاء بنت الصّانع (من منشورات دار السَّاقي)، دليلاً على صدق أقوالهما؛ نظرًا لما أحدثته الرواية إبّان صدورها عام 2005 مِن ردود أفعالٍ متباينةٍ بسبب التابوهات التي اخترقتها، عبر شخصياتها الإشكاليّة، وهو ما دفع الكاتب إبراهيم الصقر لكتابة رواية بعنوان «بنات الرياض الصُّورة الكاملة» كتقويض لما جاء في الرِّواية الأولى، لكن لم يمنع هذا من الصدى الذي أحدثته الرواية الأولى، متجاوزة حالة الحظر والمنع داخل المجتمع السعودي المـُحافِظ. وقد وصف الدكتور جابر عصفور الرواية بأنها «رواية تسليّة وترفيه في التحليل النهائي». فالرواية ليست بالعمق الذي يغوص في النفس البشرية ويعرض لصراعاتها مقارنةً بروايات تُركي الحمد ورجاء عالم، والأهمّ أن شخصياتها كارتونية لا تلبث أن تضيعَ ملامحها بعد انتهاء القراءة.

 

(2)

 

نماذج الرِّوايات الأكثر رواجًا متكرِّرة، في ظلِّ توافر الوسائط الإعلامية التي تروِّج لها، ليس أولها رواية «بنات الرياض» أو حتى «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، وصولاً إلى «ضابط 2» لعصام يوسف، وإنما هي سلسلة مُتَّصِلَّة وآخذة في الزيادة. وحتى لا تكون الإجابة عن فرضية العلاقة المنتفية بين الأكثر رواجًا والقيمة (في معظم الحالات، وإن كانت «عزازيل» يوسف زيدان استثناءً) نوعًا من الحُكم المـُسبق والاغتيال المعنوي للرواية والكاتب معًا، سأقف هنا على رواية أحمد خالد توفيق بعنوان «يوتوبيا» كنموذج تطبيقي. والتي صدرت طبعتها الأولى عن دار ميريت عام 2008، ثم تولت نشرها بعد ذلك دار الشروق. وقد حقّقت رواجًا تجاريًّا وأرقامًا قياسية في التوزيع (مع تحفظنا لعدم وجود قوائم حقيقية تؤكد أو تنفي مصداقية ما يُقال). بدايةً لديّ ملاحظات عامة على الرواية قبل الوقوف على عناصرها الروائيّة، أُسَجِّلُها في الآتي:

أولاً: تأتي الرِّواية في مستهل الأعمال الروائيّة الطويلة التي بدأها الكاتب بعد أعمال متلاحقة في سلاسل روايات مصرية للجيب، لتدخل بكاتبها في طَوْرِ مَرْحَلةٍ جديدةٍ من الكتابةِ تختلف عن سابقتها، وإن كانت لا تُفَارِقها في الخيط الفانتازي والبوليسيّ الذي دَرَبَهُ الكاتب وأصدر فيه العديد من الأعمال.

ثانيًا: تعيد الرواية إلى الأذهان نوعًا أدبيًّا، هجره الكُتَّاب (لأسبابٍ لا مجال لذكرها الآن) هو رواية الخيال العلميّ، الذي هو في الأصل نوعٌ أدبي قديم صدرت فيه أعمال كثيرة مِن قَبْل لتوفيق الحكيم «رحلة إلى الغد» وصبري موسى «السّيد من حقل السبانخ»...إلخ، إلا أنه للأسف لم يُكتب لها النجاح في واقعنا العربيّ بعكس أعمال غربيّة تصدّرت سباق البيست سيلر كسلسلة "هاري بوتر" البريطانية.

ثالثًا: كشف النجاح الذي حققّته الرواية وَفْق البيانات التي رافقت العمل مع كلِّ طبعة أو من خلال الحوارات الصحفيَّة التي أُجريت مع الكاتب نفسه، على أن أجيالاً جديدة أضحى لها اهتماماتها الخاصّة التي تفرقها عن جيل الكبار، وهو ما يتناسب مع روح العصر التقني الذي يعيشون فيه، والأفكار المحلِّقة والتي تتجاوز العالم الأرضي، وإن كانت تلامسه في الرؤية الكابوسية القاتمة التي تُنْذر بالخطر على مستقبلهم في ظلِّ صراعِ الطَّبقات الحَاكِمة والمتحكِّمة في السُّلْطَة، وتسخير السُّلْطَة لمتطلباتها.

 

(3)

 

فكرة الرِّواية تدور في إطار خياليّ، في عام 2023، وإن كانت عناصر الواقع حاضرة بكثافة، حيث التقابل بين عالم الأغيار بكل ما يحملُ مِن َقُبحٍ وَفَظاظةٍ بصفته معمولاً فيه، وأفراده يعيشون «في عشش الصفيح أو المصنوعة مِن البامبو وبقايا الأخشاب، الأرض مبتلة تغوص فيهما قدماك ... مزيج مِن الوحل وبقايا الغسيل والمجاري الطافحة» (ص 54)، وبين عالم اليوتوبيا حيث المدينة الخياليّة التي أشبه بـ «المستعَمرة المنعزلة التي كوَّنها الأثرياء على السَّاحل الشَّمالي ليحموا أنفسهم مِن بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي تحوي كل ما يريدونه» (ص، 20)، والمـُحاطة بأسوار يحرسها رجال المارينز. فينعمون بحالة من الرفاهية والرَّاحة بوصفهم فاعلاً، علاوة على تحقُّق العناصر الأساسيّة التي تجعلهم في نشوى دائمًا؛ الثروة والمخدرات والخمور والجنس.

يُمارِس أفراد يوتوبيا أنواعًا مختلفة من الترفيه، لكن أغربها رحلة الصّيد التي يتوجهون بها إلى مدينة الأغيار ليصطادوا صيدًا نفيسًا، والرجوع بتذكار ثمين. ومن هذه الهواية المثيرة تنطلق أحداث الرِّواية؛ حيث البطل يُفكِّر في أن يكسرَ حدّة الملّل التي انتبات حياته الروتينية، بالقيام برحلة صيد إلى مدينة الأغيار، ومن هنا تبدأ الأحداث في التصاعد، وتتخذ طابعًا تشويقيًا، حيث التّنَكُّر في زي العُمَّال، للخروج من بوابات التفتيش والحرس، ثمّ المشكلات التي يواجهانها عندما يصلان إلى مدينة الأغيار. العجيب أن محاولات التخفي وحيل الصّيد جاءت بدائية، فلم نجد ثمَّة ابتكارًا مثيرًا، بل هي حيل نمطيّة، وكأنَّها قادمة من أفلام الأبيض والأسود.

منذ صعود راسم وجرمينال إلى سيارة العمّال، يبدأ عرض تفاصيل العالم القذر الذي يعيشه أفراد هذه المدينة، وصراعهم الداخلي من أجل الثراء، على حساب الآخرين، ومعاملاتهم القائمة على ثقافة الاستهلاك، علاوة على كشف بعض الأفعال القذرة التي تُخفى على الأبناء عن أبائهم، كعلاقات مراد (والد راسم) الجنسيّة وشذوذه، وأيضًا الحمزاوي، وهي الأسرار التي تكشفها المرأة التي تواصلت معهما في حوار بعد أن حصلت على سيجارة منهما. وما أن يصلا إلى مدينة الأغيار حتى تأخذ الأحداث منحى جديدًا، بعرض مشاهد حيَّة مِن حالات البؤس والمهانة التي يعيشها أهل الأغيار، وحالات الضَّياع التي يعيشها أفراده، بانتشار الثالوث المـُرعب الفقر والجنس والمخدرات، وما ينتج عنه مِن قتل مجاني مِن أجل الحصول على الطَّعام أو الشَّهوة. تتداخل الأحداث بتواجد جابر الذي يقابل شخصية راسم في عالم الأغيار، وإن كان ثمّة مشتركات بينهما رغم الفارق الطبقي فكلاهما مُحبان ونهمان للقراءة، والقراءة عندهما «نوع رخيص من المخدرات» (ص، 73)، وكلاهما مفتون بالنساء جابر (عزة، نجاة، عواطف) وراسم (سوزان وكاتي ومايا وجرمينال) وكلاهما صاحب فلسفة حياتية لا نعرف مِن أين اكتسبها في ظل هذا الانحدار والابتذال اللّذيْن يعيشان فيهما، المهم أن الكاتب استطاع أن يربط بين الاثنين والأعجب أنه لمــّح إلى حالة من الكُره والحقد بادية في شخصية راسم على شخصية جابر، وهو ما انتهى بقتله من قبل (راسم) بعد انقاذهما وعودتهما سالميْن، وقبلها اغتصب أخته صفية، نقطة ضعف جابر الوحيدة التي يخشى عليها من مصير معلوم مُسْبقًا.

من السِّمات اللافتة غياب التراتبية المنطقية للأحداث داخل النّص حيث يتكرّر اللامنطقي واللاسببي، كإنقاذ جابر لهما أكثر من مرّة، وبالمثل مشهد القتل نفسه غير مبرَّر، إلى أسباب رفض جابر الاعتداء الجنسي على جرمينال، اللهم إلا إذا كان الكاتب أراد أن يُحمِّلَ «جابر» ابن البيئة الفقيرة قيمًا إنسانية سَلَبها من راسم ابن اليوتوبيا وفي هذا تعميم مخلّ لأنّ لكلِّ قاعدةٍ شواذها، كما أن النُّبل الذي ظهر فيه جابر ليس نُبْلًا حقيقيًا، كما أوضح السّرد وأراد تأكيده، بل هو على العكس، حيث يعكس قهر هذه الطبقة المتعاليّة، حتى أنَّ فكرة الاغتصاب التي راودته جاءت كنوعٍ مِن قهر هذه الطبقة في جسد جرمينال، لا كما أدّعى جابر نفسه بأن «صورة صفية حلّت محلّها» رغم حالة الاستسلام التي بدأت عليها جرمينال من تأثير الخلطة التي فعلتها لها صفية بناءً على توصيته، إلا أنه عجز، ونفسه ردّ العجز ليس لنبله وإنما لأنه واقع تحت تأثير سلطة يوتوبيا وهو ما ظهر عبر الديالوج الداخلي الذي بدا كأنه نوع من الهذيان:

- «ماذا دهاك؟ هل سُلْطة يوتوبيا عليك مُطْلَقَة إلى هذا الحدِّ؟ هل صارت يوتوبيا تسيطر على هرموناتك وغدتك النُّخامية وغدتك الكظرية ونسيجك الكهفي وجهازك السبمثاوي؟ هل إلى هذا الحد تغلغلت فيك؟ أهي سيطرة يوتوبيا أمّ هي سلطة ضمير كاسحة تجعلك ترى كل فتاة هشّة معدومة الحيلة كأنَّها صفية أخرى» (ص،147)، وعندما

يعترف بأنَّه عاجز عن قتلهما (راسم وجرمينال) تساءل في استنكار: «هل هذا لأن يوتوبيا أقوى مني أم لأنني أقوى مني؟» (ص149)

 

(4)

 

تبدو الحكاية رغم الطابع الفانتازي الذي تدور فيه، وأيضًا من خلال زمنها المستقبلي ودليلها التغيُّرات التي تطرأ كأن يَحلّ البايرول محل البترول، ويحل ليبيدافرو محل الفياجرا، عادية جدًا، كما أن الصِّراع بين العالمين ليس بجديد، تناولته خطابات روائية من قبل أبرزها نموذج «عمارة يعقوبيان»، كما أن المعالجة لهذه التيمة القديمة الجديدة، ليست بجديدة، وهو ظاهر في دائرية النص الذي يبدأ من النهاية لحظة المطاردة، وينتهي بنفس مشهد جابر في الأحراش، متماهيًا مع المشهد السينمائي الذي عكسه الكاتب لتبدو الأحداث غرائبية ومتداخلة، وأيضًا عبر عناوين الفصول التي تناوبت ما بين الفريسة والصياد، ليلِّخص لنا ليس جوهر الرواية وفقط، وإنما جوهر الحياة كلها.

اللافت أن شخصيات الرواية جاءت خالية من الرُّوح، أشبه بالشَّخصيات الكارتونيّة، فالبطل ذو السّنوات التي تقترب من العشرين غارق في الملذّات ويرتدي كلّ ما هو مثير كالسِّروال القصير والحلق في الأنف والحاجب، ويلوِّن أسنانه ويضع حلية للِّسان، لمجرد إثارة النساء وإظهار فحولته لهنَّ، لا هدف له، وقد ذوبته الحياة المترفة والمدلّلة لدرجة عدم التمييز بين الجنسيّات ولولا شهوة الجنس ما استطاع أن يميِّز بين الذكر والأُنثى، يفعل أيّ شيءٍ لمجرد كسر روتين الحياة كأنْ يفكر في أن يذهب إلى الحرب لمجرد أن «يمشي وسط طلقات الرَّصاص في صحراء تتناثر فيها جثث الموتى» (ص، 14)، حتى القراءة بالنسبة له تمثِّل نوعًا من المخدِّر الرخيص.

كما أن الشّخصيتيْن الرئيسيتيْن (راسم وجابر) افتقدتا لأُسس بناء الشَّخصية، فرغم أن كلتيهما تنطبق عليها سمات المثقَّف بتعبير جرامشي وبندا أو حتى إدوارد سعيد إلا أن بذرة الثقافة التي تتبناها كل شخصية في حديثها، كانت عبئًا، فلم نرَ شخصيات إشكاليّة تتمرَّد على واقعها المــُثقل بالضَّجر والسّأم (راسم) أو المقيت والدافع للموت (جابر)، على العكس فكلتاهما استسلمتا للظروف دون أن يُقدِّما حلولاً، كما أنّ لحظة قتل راسم لجابر لم تكن مقنعة بالمرة ولا حتى أسبابها، ولا النهاية العبثيَّة التي تذكِّرنا بمشهد إطلاق النَّار في رواية «اللّص والكلاب» لنجيب محفوظ، مع فارق الدلالات التي يحملها الموقف، فسعيد مهران كان مأزومًا من مجتمع وثورة آمن بها فضلت طريقها في تحقيق العدالة التي كان يؤمن بها، وتخلَّي أستاذه عنه الذي دفعه للسَّرقة كنوعٍ من تحقيق العدالة والاشتراكيَّة حسب مفاهيمه، ثمّ الأهمّ حبيبته التي خانته بالزواج من غريمه، أما هنا، فلا شيء من هذا حدث، على العكس الكل كان يُلبي طلبات البطل، حتى الذي أغتصب أخته سهَّل له الهروب وأنقذ حياته من قبل.

أما شخصيّة جابر فقدَّمها الكاتب على أنها شخصيَّة مثاليَّة رغم أنها نبتت في ظروف صعبة لا تفرز إلا الشَّر، ومع هذا فصار جابر فيلسوفًا، وفي بعض الأحيان مُنَظِّرًا، ثمَّ الأهمّ ما هي الدوافع التي جعلت من جابر عَونًا لهما؟! حتى وإن كان كما يدّعي بأنّه لا يحبُّ الدم بين الطرفين، وهو ما أفقده قرنيته في معركته التي خسرها مع السَّرجاني، أو خوفًا على صفية، ومع هذا الخوف غير المبرَّر لأنه يعيش في عالم ليس فيه ثمَّة أمل للتغيير، حدث ما خشيه، كما أنَّ الكاتب رغم كل الأحداث يشير إلى أن ثمَّة غضبة ستحدث من قبل الأغيار ضدّ هؤلاء الذين يعيشون في عوالمهم الخياليّة والمحجوبة عنهم بالأسوار والمارينز، إلا أنه شكّك في إمكانية الثورة بل تهكّم عليها، فهم في عقله أشبه بالخراف، «هم فقدوا القدرة على الغضب» رغم ثمة لحظات غضب «يهتاجون فيها كالخراف» لكن على حدّ رأي بطله الفليسوف «إلا أنّها بلا سبب ولا مبرر واضح» (ص، 34). اللافت حقًا أن جابرًا صار صاحبَ بصيرة فهو يستشعر أن نهايته ستكون على يد الفتى القادم من يوتوبيا وبالفعل تأتي نهايته على يد راسم «أنا ولدت خاسرًا ولسوف يظفر بي الفتى القادم من يوتوبيا لا محالة» (ص 72).

لن تقتصرَ نمطية الشخصيات على الرئيسية منها، بل إن كثيرًا منها جاء عبئًا على العمل، ولو حُذفت ما تأثَّر النَّص، كشخصية جرمينال التي هي أشبه بالدميّة، الفاقدة للإحساس حتى في أشدّ اللّحظات التي تظهر فيها طبيعة الأنثى لم تزد على كونها دُمية تتحرك كما يريد، أقصد لحظة اغتصاب راسم لصفية، عندما أمرها بالخروج خرجت، دون أن تُبدي استنكارًا أو حتى تدافع بأية وسيلة عن أنوثتها وليس كرامتها التي تهدر أمام عينيها، وبالمثل شخصية سرجاني، جاءت وكأنها من الخارج لم نشعر بها أو بدورها داخل النَّص، فقط جاءت لتشيع جو الرُّعب، وكأننا إزاء فيلم سينمائي، ومع كل ما تحمله من جينات الشّر إلا أنها كانت مروّضة مِن قبل جابر الذي هو في الأصل واقع تحت حمايته. بل يمكن القول إن ّصفية لم تضف أيّ بُعْدٍ للرواية وكأنَّ وجودها في النَّص مُنْحَصِرٌ في لحظة اغتصابها، وتذكيرنا على طول خط السَّرد بلحظة الضمير التي يستيقظ في داخل أخيها جابر، فتكون الحاجز للحول دون ارتكابه الكثير مِن الجرائم.

 

(5)

 

ثمّة أشياء أثقلت حركة السَّرد مثل التقارير والإحصاءات التي تشير إلى ارتفاع معدل الجريمة وتنوعها، وأعداد البطالة وجرائم القتل بدافع السَّرقة وجرائم العنف ضد المرأة وعلى رأسها الاغتصاب، والجرائم الأسرية، وتزايد أعداد المدمنين الذين يتعدون الـ 2 مليون مدمن واختلاف أسبابها في المناطق المسكونة بالقهر الاجتماعي، فالأرقام والتقارير يظهران كأنهما منفصلين عن سياق النص، خاصة حادثة هروب المعتمرين المصريين، فجاءت دخيلة، وإن كان من الممكن التعامل مع هذا على اعتبار أنها بنية متداخلة، جعلها كخلفية للأحداث، ومن ثمَّ الرابط واحد، ولكن إقحامها مثل إقحام كلام الدكتور أحمد عكاشة، أصاب السَّرد بالترهُّل وأفقد الوحدات التماسُّك، بما فيها التماسُّك الداخلي الذي غابَ بسبب تعدُّد الرواة. بخلاف هذا جاء السَّرد عاديًا يغلبُ عليه الغنائية، وفي بعض مناطقه مغرق في الوصف، أو الدور الوعظي والإرشادي، بالإضافة إلى الإشارات الجانبيّة التي يعرض فيها لفساد الحكومات وتساقط الموتى كما في حوداث القطارات، وهو ما يشي بكفر الناس بالدوَّلة وبالانتماء لهذا الوطن الذي لم يزدْ الفقير غير بؤسٍ على بؤسه.

قد يتخلّى السَّارد عن دوره في الرصد والتعقُّب لشخصياته ومواجهتها بقدرها ومصيرها حيث يقدّم أراءً وتحليلات على نحو حديثه عن تأخُّر سن الزواج عندما يرى النّساء البائسات أمامه، فتأتي تفسيراته قاطعةً لخطيَّة السَّرد وبالمثل هناك أَوصاف خارج السِّياق من قبيل «عندما يزحف القبح والعطن على كل الإثارة التي يولدها الخيال تلتف الغصون الشائكة الطفيلية حول الثمار وتزحف العقارب بين اللآلئ» (ص، 55). كما أن السَّردَ يعتمدُ بشكلٍ أساسيّ على إجراء المقارنات بين العالميْن في كل شيءٍ بدءًا مِن الدين والمسكن وعادات النَّاس، وأسمائهم التي تختلف عن الأسماء في يوتوبيا، وهواياتهم، ومعدل الخصوبة بين رجال يوتوبيا والأغيار، وصولاً إلى طعامهم، ومن ثمَّ يأتي الرأي السَّلبي في عالم الأغيار: «هذا العالم يتظاهر بأنهم أحياء، يتظاهر بأنهم يأكلون لحمًا ويتظاهرون بأنهم يشربون خمرًا، وبالطبع يتظاهرون بأن لهم الحق في الخطيئة والزلّل، يتظاهرون بأنهم بشر»(ص، 50)، الفارق الوحيد الذي يثبته للأغيار، أنه مع بؤس واقعهم إلا أنهم متلاحمون ومنصهرون لدرجة أنك لا تعرف دين أي شخص «ما لم ينطق بقسم على نحو المسيح الحي أو يصلي على النبي، فالأسماء صارت عادية محايدة لا تدل على شيء: فريد عوض عماد، الميزة الوحيدة هي المساواة الدنينة» (ص، 66)، مثلما ساوى الفقر بين الجميع.

كما أن المبالغة ليست مقتصرةً على وصف الشَّخصيات وتفاعلاتهم معًا، وإنما أيضا تشمل وصف حالة الملل التي يعيش فيها أبناء هذه الطبقة المتعالية، وما يتبعها من عبثٍ، فراسم مثلا تدور حياته وأصدقاؤه في دائرة من الملل والفراغ وفعل أشياء خارج دائرة العقل، على نحو «أصحو من النوم أفرغ مثانتي، أدخن أشرب القهوة أحلق ذقني أعالج الجرح في جبهتي ليبدو مريعًا أضاجع الخادمة الأفريقيّة، أتناولُ الإفطار أصبّ اللبن على البيض، وأمزق كل هذا بالشوكة ألقي بالخليط المقزز في القمامة أتثاءب أضحك أبصق ألتهم اللحم المحمّر أدسّ أصبعي في حلقي أدخل غرفة نوم لارين لأفرغ ما بمعدتي على البساط أضحك أدسّ أصبعي في أذني.آخذ زجاجة ويسكي من البار وأجرع منها، أرقص أترنح أقف فوق أريكة أتقلَّب على البساط أقرأُ الجريدة التي لا تزيد عن اجتماعيات يوتوبيا» (الرواية، ص:26).

كما كان لحرص الكاتب على مُخاطبة جمهوره العريض الذي انتقل معه مِن أدب النشء إلى أدب الكبار، أن لجأ إلى لغة متداولة بين أوساطهم، كما هو واضح في «اتنيل اتنيلت»، وفي بعص منها تعكس حالة اندياح الحدود بين الأباء والأبناء، كما في خطاب راسم لأمه وأبيه، كما أن لغة الخطاب في عالم الأغيار تعكس تماهيًا مع الواقع وإن جاءت بتقليد لعبارات استهلاكية، وكأنها إعادة لإنتاج لخطاب مسلسل ريا وسكينة أشهر سفاحي الإسكندرية، مثل :«معك سيجارة يا شابة؟»، ومرة ثانية «أنت يا الجدع؟»

الشّيء الذي يُحْسَبُ له أن لُغة الخطاب كشفتْ عن الحقدِ الدفين الذي يوجّهه سكان يوتوبيا لسكان الأغيار، على نحو ما دار بين جابر مع راسم وجرمينال: «لماذا لا تتركوننا وشأننا؟ سرقتم منا الماضي والحاضر والمستقبل. لكنكم تكرهون أن تتركونا نعيش» (ص، 101)، وفي بعضها يكشف عن الصِّراع الطبقي والاختلاف بين العالمين حيث الهوة الشّاسعة، وإن كان الكاتب لم يستغلها لاستجلاء حقائق عن عوامل الحقد بين العالمين بقدر ما أظهر الضغينة في الأسئلة والشماتة.

 

***

 

بعد هذا، ألا نتساءلَ بصوتٍ عالٍ أين القيمةُ الأدبيّة، أو حتى الفنيّة في تلك الأعمال التي يروَّجُ لها بأنَّها الأكثر مبيعًا؟ أو حتى ما هي الرِّسَالة الأخلاقيَّة التي حملتها الرواية، أو سعت لنشرها عبر أبطالها. أم سنظل نخضع لابتزاز الناشرين، بإدّعاءات عن الرّواج والتوزيع، ونغضُّ الطرفَ عن القيمة والفنيّات؟! في هذه الحالة لا سبيل لنا إلا الاعتماد على الذائقة وفقط، في ظلِّ رواج وطغيان الغَث، في مقابل غياب النّقد الحقيقيّ.

 

(*) نُشر هذا المقال للمرة الأولى في مجلة (الثقافة الجديدة) عام 2014، ويُنشر هنا بإذن خاص من كاتبه بالتزامن مع إعادة نشره ضمن كتاب (القارئ العادي والتيه النقدي) الصادر حديثًا للكاتب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.

 


إرسال تعليق

أحدث أقدم