العقاد كما عرفه حسين أمين



العقاد كما عرفه حسين أمين

إعداد: محمد خيري الخلَّال

 

في كتابه الممتع (شخصيات عرفتُها) الصادر عن دار العين للنشر عام 2007.. يروي الأستاذ حسين أحمد أمين حكايات ومواقف شائقة عن شخصيات أدبية وفكرية شهيرة في حياتنا الثقافية، تصادف أن تعرف عليها واقترب منها بشكل مباشر أو بحكم علاقتها بوالده المفكر الإسلامي الأستاذ أحمد أمين.. وقد التزم حسين أمين في حديثه عن هذه الشخصيات أن يكون قاصرًا في معظمه على ما خَبره بنفسه منها وعاينه، دون ما سمعه عنها أو قرأه.

والكتاب حافل بصور لأدباء ومفكرين وفلاسفة، وممثلين وسياسيين ونقاد.. يوردها الأستاذ حسين أمين بغُضُونها وتجاعيدها، وبمحاسنها ومساوئها.. عارضًا لبعض التفاصيل الدقيقة التي قد لا يعتبرها البعض ذات أهمية كبيرة، ولكنها هي ما جعلت تلك الصور تنبض بالحياة على نحو لم يسبقه إليه أحد في حديثه عنها من قبل.. وسنحاول هنا أن نعرض بعضًا من هذه المواقف والحكايات.. وسنبدأ مع الأستاذ العقاد.

في البداية يشير الأستاذ حسين أمين إلى العلاقة التي كانت قائمة بين العقاد ووالده الأستاذ أحمد أمين، والتي على الرغم  من اتسامها بالاحترام والود ، إلا أنها لم تدفع أحدهما لزيارة الآخر.. وظلت قاصرة على الاتصالات الهاتفية فقط.. ويقول الأستاذ حسين أن ذلك ربما كان موقف العقاد مع بقية أدباء عصره أيضًا.. معللًا ذلك بأن صداقة العقاد الحميمة لإبراهيم عبد القادر المازني ـ والتي بدأت وهما في نحو سن العشرين ـ كانت على ما يبدو كافية لسد حاجة العقاد إلى الصداقة والصديق.

ويحكي حسين أمين عن أول زيارة قام بها لمنزل العقاد وكيف فوجئ  بهذا الرجل المشهور عند جمهور الناس بالجهامة والعبوس والعنف والقسوة.. بسيطًا لطيفًا، يُظهر في داره من كرم الضيافة وحب الفكاهة والمزاح ما لا يعرفه الكثيرون عنه.. ويقول عن هذه الزيارة أنها أتاحت له فرصة للطواف بمكتبة العقاد التي كانت تملأ حجرات البيت وطرقاته، بحيث يتعذر على الضيف أن يميز في يُسر مكان حجرة مكتبه من سائر الحجرات.. فقد كان العقاد يغترف من الآداب الأجنبية والعربية دون تمييز ودون تحيز، فيمتزج في كيانه مختلف الثقافات، دون أن يشعر بما يشعر به أناس يومنا هذا من تمزق وحيرة بين التراث والمعاصرة، أو ضرورة للاختيار بين الحديث والقديم، أو بين ثمرات الفكر العربي والأجنبي.

ويحدثنا حسين أمين  في موضع أخر من المقال عن أنه كثيرًا ما كان يرى العقاد داخلًا إلى مكتبة الأنجلو المصرية ـ التي كانت تنشر كتبه ـ بقامته العملاقة المهيبة وطربوشه وكوفيته الطويلة الشهيرة، ليسارع موظفوها إلى استقباله بحفاوة بالغة، فيبادر بسؤال أحدهم بصوته الضخم: "فين سيدك الحمار؟!".. فيهرع صاحب المكتبة إليه منحنيًا على يده ليقبلها، ثم يأتيه بكرسي يجلس عليه، وبكوب من القرفة يحتسيه، وبالكتب الحديثة مما ورد إلى المكتبة حتى يتصفحها وينتقي منها ما يحب.

وهي نفس المكتبة التي كانت جماهير القراء تصطف في طابور طويل أمامها قبل أن تفتح أبوابها بنصف ساعة أو ساعة يوم عرض نسخ من كتاب جديد صادر له.. وهي الجماهير ذاتها التي لم يؤثر في احترامها له اضطراره أحيانًا إلى مدح الملك فاروق في شعره بعد تحوله إلى الحزب السعدي.. ورغم هذا المديح: (بلسم في يمين فاروق يُشفي... كل جرح به عصي الشفاء).. فإن الملك لم يغفر له أبدًا تجرأه على أبيه حين وقف في البرلمان عقب تعطيل وزارة إسماعيل صدقي للدستور بإيعاز من الملك فؤاد.. يصيح أن الشعب على استعداد لتحطيم أكبر رأس في البلد إن هو حاول العبث بالدستور.. وقد كان هذا هو السبب في أن فاروق لم يُنعم على العقاد بعد توبته بأي لقب.. ورغم مدحه لفاروق كان العقاد مخلصًا في معتقداته، لا سبيل إلى الشك في أنه كان يمقت ويكره ويستفظع النظم الشولية جميعًا.. يمينيّها ويساريّها على سواء.. فقد سبق أن هاجم الشمولية هجومًا عنيفًا في كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" الذي ألفه عام 1928.

ولهذا رحب العقاد بثورة يوليو، وكتب في تأييدها.. ومن القصص الطريفة التي قيلت عن العقاد، ويحكيها الأستاذ حسين؛ أن عبد الناصر كلف مَن يتصل به تليفونيًّا ليخبره أن السيد الرئيس يرغب في لقائه، فحدد العقاد الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي موعدًا للقاء.. وفي العاشرة والنصف من ذلك الصباح عاد الرجل إلى الاتصال تليفونيًّا به ليسأله عن السبب في عدم حضوره لمقابلة الرئيس، فكان جواب العقاد: "الحضور إلى أين؟ لقد انتظرته في بيتي أكثر من نصف ساعة فلم يحضر!"

كان العقاد موسوعي الثقافة، حصَّل من المعارف ما لم يُحصّله غيره، وخرج على الناس بكتب لا يمكن اتهام مؤلفها بالاستخفاف بعقلية قارئه، أو بالتعجل غير المغتفر في إنجازها، أو بقلة الصبر على دراسة المراجع بصددها، وتقليب الذهن في موضوعها.. وأما بالنسبة لما كان يشاع عن تعمده استعراض عضلاته الفكرية والتباهي بسعة اطلاعه، والانتقال عامدًا من موضوع إلى آخر لمجرد الرغبة في أن يكشف عن غزير علمه.. فيفسر حسين أمين ذلك بأنه كان رد فعل محض لقصور تعليمه المدرسي، فما كان يبدو للناس على أنه غرور من رجل لا يكاد يطاق، قد يكون مجرد قناع يُخفي وراءه ضعف ثقة ناجم عن خلو جعبته من الشهادات التي يرى فيها الحمقى من بني قومه دليلًا على تحصيل المعارف.

بحسب رأي حسين أمين فإن شِعر العقاد أعظم بكثير من نثره، ويمثل أفضل إنتاجه.. رغم ما واجهه من نقد عنيف أثناء حياته من شعراء "أبولو"، ومحمد مندور صاحب المقولة المشهورة: "أن شعر العقاد لا شأن له بالشعر".. حتى ولو كان العقاد كما يرى أمين قد أساء إلى موهبته الشعرية الحقيقية بإقحام الفلسفة في قصائده.. إلا أن شِعره

رغم ذلك سيعيش أكثر من نثره.. ففي رأيه أن مؤلفات العقاد وعلى الرغم من قيمتها وتأثيرها العميق في نفوس قرائها وقت صدورها.. ربما ستصير بمرو الأيام في طي النسيان.. وذلك بسبب إقبال العقاد على قراءة كل ما وقعت عليه يده دون تمييز، وفي كل فروع المعرفة دون تخصص أو تعمق، مما جعله يفشل في أن ينتج فكرًا متسقًا متلاحم الجوانب، يدعم بعضه بعضًا.. فإذا بذلك الصرح العملاق الذي قضى أكثر من نصف قرن في تشييده يبدو ـ شأنه في ذلك شأن سلامة موسى ـ مفتعلًا مهلهل النسج، مفتقرًا إلى الإحكام وإلى اللمسة الشخصية المتفردة.





إرسال تعليق

أحدث أقدم