رحَّالة.. دفتر المسافرة اﻷبدية


رحَّالة.. دفتر المسافرة اﻷبدية

الكاتب: محمود راضي

 

دائمًا ما راودني التخيل حول ما سيبدو عليه اﻷمر لو قرر كاتب في عصرنا الحالي أن يكتب نسخته الخاصة من (ألف ليلة وليلة) في القرن الحادي والعشرين، إلى أن قرأت رواية (رحَّالة) للكاتبة البولندية أولجا توكارتشوك، وشعرت بأن هذا التصور قد تحقق بالفعل، وعلى نحو يتعانق فيه الشكل والمضمون على أفضل ما يكون.

ربما قد يتحفَّظ الكثيرون على تصنيف هذا الكتاب ضمن تصنيف (الرواية) من اﻷساس بسبب طابعها المتشظِّي عن عمد، وكذلك كان الحال مع اﻷعمال التي كانت تحمل طابعًا شفاهيًّا قبل نقلها كتابة مثل: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والديكاميرون، وحكاية اﻷمير جينجي، وحكايات الببغاء السبعون. إلا إنه قد لا يندرج أيضًا تحت مسميات المتتالية القصصية أو أدب الرحلات أو الكتابة النثرية أو حتى التأملات الفلسفية، والجميل أن توكارتشوك لا تبالي من اﻷساس بتصنيف عملها، طالما كان هذا الشكل يحقق لها الحرية الكاملة في سرد حكايتها المتشظية.

عبر المئة وستة عشر فصلًا متفاوتة الطول، التي تتألف منها رحَّالة، تعمل الرواية على محاكاة عين المسافر المدققة التي تلتقط الشذرات والتفاصيل - ومعها الحكايات بالطبع - من هنا وهناك، وتعمل على تسجيلها، الرواية حرفيًّا لا تتوقف عن الحركة، ونتقافز معها نحن القراء من حكاية ﻷخرى، امتثالًا لطبيعة بطلة الرواية كثيرة اﻷسفار.

ولا تقتصر أسفار رحَّالة في البعد المكاني، بل تجرؤ على اقتحام البعد الزماني بكل جسارة، مستحضِرة عددًا غير قليل من الحكايات اللي تتَّسق مع طبيعة الرواية وطبيعة عمل بطلته، وهي من اﻷمور التي تؤكد أكثر قصدية توكارتشوك من هذا الشكل المتشظِّي لروايتها، عاملة على خلخلة الحدود المصنوعة بين العوالم وفتحها في أرضية جديدة بالكلية.

كما ينجح هذا الشكل في إضفاء حسٍّ موسوعي على الرواية، محولًا الكتاب شيئًا فشيئًا إلى محاولة طموحة في التوثيق اﻵني لعالمنا الكبير في واحدة من لحظاته، مبرزة العديد من تجلياته الخفية، كما أن هذا الحس الموسوعي يتماشى في سيرورته مع سردية الرواية ولا يقاطعها ويتعارض معها مثلما كان يفعل هيرمان ملفيل في روايته (موبي ديك)، التي تشعر فيها بافتعالية الحس الموسوعي واقتحامه للحكاية عنوة.

أما الميزة اﻷكبر في الشكل الذي تتخذه رحَّالة، فهي توفيره للحرية الكاملة في كيفية القراءة؛ فالرواية لا تفرض نقطة بدء بعينها ينبغي القراءة منها، كما يمكنك مع تعاقب القراءات أن تنتقي عشوائيًّا فصلًا من الفصول المفضلة لديك وتشرع في قراءته مباشرة، وقد يتحول اﻷمر ﻷن يصير من الكتب التي تحملها على الدوام في حقيبة ظهرك وتختار منها وردًا يوميًّا.

 

رواية رحَّالة.. تأليف: أولجا توكارتشوك، ترجمة: إيهاب عبد الحميد

دار التنوير

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم