مهمة الكاتب العظيم



مهمة الكاتب العظيم (*)

الكاتب: سلامة موسى

 

الفرق بين الكاتب وقرائه هو أنه أكثر وجدانًا منهم، أي: إنه يجد نفسه، في أبعادها الزمنية والمكانية، أكثر مما يجدون هم أنفسهم، ومهمته أن ينقلهم إلى درجة وجدانه ويكسبهم ضميره.

مهمة الكاتب أن يرفع القارئ من الزقاق إلى الشارع، ومن الشارع إلى المدينة، ومن المدينة إلى القارة، إلى هذا الكوكب كله، مهمة الكاتب أن يملأ صدر القارئ باهتمامات هي هموم جديدة، هموم بشرية تزيد على همومه الشخصية، كما يملأه بمسرات الحياة بأن يكشف له عن ألوان من الجمال والشرف والحق والقوة لم يكن يعرفها من قبل في الطبيعة والإنسان والفن.

مهمة الكاتب أن يحمل القارئ على أن يأبى أن يحيا حياة الحشرة بهموم شخصية وضيعة: أكل وشرب ومسكن، وأن يكسبه همومًا بشرية عظيمة كالحرية والثقافة والحضارة والفن والثورة.

مهمة الكاتب أن يجعل القارئ يحيا الحياة التاريخية، ويحس أنه إنسان عظيم له مشاركة في تغيير هذه الأرض وترقية مجتمعاتها وتطوير حضارتها.

مهمة الكاتب أن يقول للقارئ: أنت لست تاجرًا تبيع الأقمشة أو البقول، إنما أنت إنسان عظيم قد احتاجت الطبيعة إلى ألف مليون سنة كي تخرجك من رحمها بعد آلاف التجارب التي لم تنجح في إخراج مثلك، أنت قمة التطور، أنت سلطان هذه الأرض.

وبكلمة موجزة: قيمة الكاتب ومهمته أن يزيل عن القارئ هذا الذهول الذي كثيرًا ما يقع فيه فينساق في عادات فكرية وعقائدية تاريخية حتى يتحجر، والكاتب العظيم هو ذلك الذي يصدم قارئه فيوقظه، ويرد إليه وجدانه، ثم يزيد هذا الوجدان سعة وعمقًا.

الشيزوفريني هو رجل مريض، ومرضه هو الذهول، فالحوادث التي تجري حوله، خطيرة أو حقيرة، لا تلفته، ولكننا نعيد إليه وجدانه وتعقله بصدمة كهربائية عنيفة.. والكاتب العظيم هو هذه الصدمة الكهربائية لقرائه الشيزوفرنيين الذاهلين، وكلنا إلى حد ما في شيزوفرينا طفيفة، ولذلك كثيرًا ما نعيش في ذهول.

وأعظم ما يتهيأ به الكاتب كي يحسن حرفته، ولا نقول كي يكون عظيمًا، هو أن يزيد وجدانه، ولذلك يحتاج إلى أن يدرس المعارف والأفكار والعلوم والآداب، وجميع هذه الأشياء تزيد الوجدان، أي: إنه سيجد نفسه في ميدان من الوجود أكبر وأرحب مما كان قبل أن يدرس هذه المعارف، وهو لذلك يكون أقدر على التعقل؛ إذ هو يرى ويحس أكثر، وهو لذلك أيضًا يكتسب الحكمة والبصيرة معًا، فإذا كتب كان ما يكتبه ثمرة لهذه الحكمة وهذه البصيرة.

ولكن هذه المعارف والأفكار والعلوم والآداب لا تشتمل على جميع الاختبارات التي يحتاج إليها الكاتب؛ ذلك لأن الكاتب يشتغل بشئون الناس، فيجب أن يعمل أعمال الناس، ولو كان العمر يمتد حتى يتسع للكاتب، بحيث تمر به اختبارات مهنية وأخلاقية وروحية؛ بحيث يكون ملاحًا في السفينة، وضابطًا في الجيش، ومعلمًا في المدرسة، وطبيبًا في المدينة أو الريف، وسياسيًّا وصحفيًّا، وبحيث تمر به بعض الكوارث كموت الصديق، أو الحبس والحرمان، أو الفقر والمرض، وبحيث تنتابه تلك التطوارت الروحية التي تغير عقيدته أو تقويها، وتحرفه عن وجهته أو تثبته.

لو كان العمر يمتد لكل ذلك لكان في هذه الاختبارات ما يهيئ الأديب أعظم التهيؤ لأن يكون عظيمًا؛ لأن هذه الاختبارات تربطه بالمجتمع، وتغمسه في الطبيعة، وتزيد وجدانه، وتبعده عن الذهول الحيواني.. ولكن بالطبع هذه الحال محال، ولذلك يضطر الأديب إلى أن يستبدل باختبارات الحياة دراسة أحوال البشر والمجتمعات من الكتب والصحف ومن الناس، يسألهم ويتعلم من إجاباتهم واختباراتهم.

بعض الأزمنة يحفل بالكوارث، فيزداد الوجدان عند الناس عامة، وعند الأديب خاصة.. كان جيته الأديب الألماني يشكر الأقدار على أنه رأى في حياته حرب السنين السبع، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب نابليون، وكان يقول: إن هذه الكوارث قد زادته حكمة وبصيرة؛ لأنها زادته وجدانًا؛ إذ هي أبعاده التاريخية والجغرافية والروحية.

وهذه هي الكوارث والاختبارات العامة، ولكن الأقدار تحابي أحيانًا بعض الأدباء بكوارث خاصة، فيتنبهون، ويحسنون بذلك تأدية رسالتهم؛ ذلك أن الكارثة الخاصة تحدث لنا توترًا قد لا تحدثه الكارثة العامة، فإذا كنا على شيء من الذكاء فإن هذا التوتر يبعث فينا غضبًا أو حزنًا، نجعل منه مادة فنية جديدة للقراء؛ لأن مشكلتنا الشخصية تعود مشكلة عامة للبشر، ومأساتنا الفردية مأساة المجتمع كله.

وكاتب بلا توتر، وبلا قلق، وبلا جنون، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتب به، فنحن نقلق ونسخط، ثم نتوتر، إذا كنا نجد في الوسط الذي نعيش فيه من الأخطاء والعلل ما يستحق غضبنا وتوترنا، ولكن نوبة القلق، نوبة التوتر، نوبة الجنون، لا تلائم الكتابة. ولذلك يحتاج الكاتب المتوتر إلى فترة من الحضانة أو الاختمار، يبدأ عقبهما فيكتب، كما لو كان شخصًا آخر غريبًا، أي: يكتب في وجدان وتعقل.

إن الأديب يحتاج إلى البر العاجي، ولكن لا ليعيش فيه، وإنما ليعتكف فيه، ويلجأ إلى خلوته بعض الوقت، كي يتأمل الحوادث ويفكر فيها ويتدبرها، وإذا كانت السوق هي ميدان الصحفي التي يدرس فيها تتابع الحوادث، فإن ميدان الأديب يجب أن يشمل السوق والبرج العاجي معًا، الأولى للاتصال بالمجتمع ودراسة الأشخاص والأشياء، والثاني للتأمل والاستنتاج.

والصحفي ينقل إلينا الحوادث فور وقوعها، ولكن الأديب ينقلها إلينا بعد الاختمار والتدبر اللذين يحتاجان إلى أيام أو إلى سنوات. وعالمنا في ارتباط أفكاره واشتباك أممه، يتطلب من الأديب أن يكون صحفيًّا، يرتبط بالمجتمع، ويدرس المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي تفشو فيه، ثم ينقلها، في برجه العاجي، إلى الشعر أو النثر.. إلى الأدب.

 

(*) اُقتطع هذا النص من مقال (رسالة الكاتب) للأستاذ سلامة موسى، والذي نُشر ضمن كتابه (مقالات ممنوعة)، الصادر لأول مرة عام 1959

 

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم