مِن صفات الأديب العظيم




مِن صفات الأديب العظيم

الكاتب: مارون عبود

 

الأديب الذي أحدثكم عنه هو رجل مُلهِم.. خُلق من الناس ليكون أبًا للناس.. فهو آدمي في نفسه قبس من الحق لا يُطفأ.. لا نعني بالأدباء أولئك الضفادع الذين ينقون في مستنقعات الرجعية، ويتقيئون على الورق ما قاله الأدباء الكبار منذ الآف السنين ومئاتها.. بل نحن نعني أولئك الذين يدور العقل البشري في أفلاك وحيهم وإلهامهم، وإن خرج منها إلى فلك السفاحين الجبارين عاش شقيًّا مظلومًا.

فمخيلة الأديب في حلم دائم، والعلم يعبر تلك الأحلام ويحققها.. مخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود، كآل فرعون، ليكون لنا عدوًّا.. يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد الناس، والجبابرة يُصيِّرون تلك الأحلام يقظة قاسية.

إذا حاق الظلم بالإنسانية فالأديب أول من يتألم ويصرخ.. الأديب يرفع صوته تحت بريق السيوف، ولا يسكته السلطان مهما طغى وتجبر؛ لأن الأديب الكامل لا يُشترى ولا يباع.. لا يكتم كلمته ولو أعطي بها ملء الأرض ذهبًا.. فهو لا يبتغي إلا العدالة، ويؤثر الموت على الخزي والعار.

يحمل الإنسانية على رأسه ويمشي، والحق يتكئ على صدره بالبيت كما قال كنفوشيوس.. ومهما ثقلت عليه يد المضطهد فهيهات أن تزحزح عقيدته الراسخة؛ فهو يعيش بين معاصريه ويفكر بالمتقدمين، ويساير عصره، ويعمل بما يوحي إليه الغد.. لا تلين إرادته ولا تنهزم أمام المخاطر والاضطهاد، فهو يسعى وراء المعرفة بلا ملل ولا راحة.. في الضعة والفقر لا يسقط الأديب كالحصاد، وفي الوجاهة والغنى لا يتنفس فرحًا وكبرياء.

يتجاسر الأديب على مهاجمة خلفاء ينام الموت بين شفاهم.. بينما الشعب الخانع في كل عصر يضحك من أدبائه ضحكة بهلولية، ويتذبذب إلى ظلامه بالنيل منهم والهزء.. أما الأديب فلا يسكت، الأديب يعرض عن الاثنين، ولا يضن بروحه ليغلب العالم.. والذي يظهر لي بالاستقراء أن الشقاء حاجة الأديب التي لا بد منها، وإذا لم يجدها شقي بعقله.

كل هذا ينبئنا أن الأديب العظيم هبة علوية، وأن في الأدب السامي غذاء لا بد منه للبشر.. تسأم النفوس دنيا العمل وضجيجها المزعج فنلجأ إلى دنيا الأديب، وعوالمه التي يخلقها، فتنفتح أمامها آفاق الأماني والأحلام، وإذا نظرنا إلى الانقلابات العالمية الخطيرة، رأينا للأديب فيها اليد الطولى. كلكم يعلم أثر فولتير وتولستوي ونيتشه في العالم الحاضر.. فالأديب، شاعرًا كان أو ثائرًا، يقلب ببيانه الدنيا ومثلها العليا، وهو يقضي دائمًا بالأمر عن الشعب الغافل.

 

(*) النص مُقتطع من مقال: (أثر الأديب في الحياة)، للأستاذ مارون عبود، والذي نُشر ضمن كتابه: (نقدات عابر)، بتصرف من: محمد خيري الخلَّال

إرسال تعليق

أحدث أقدم