فن تخطي الصفحات المملة




فن تخطي الصفحات المملة (*)
الكاتب: سومرست موم
ترجمة: سيد جاد ــ سعيد عبد المحسن


قد تكون تخطي الصفحات عادة سيئة.. غير أن القارئ يضطر إليه اضطرارًا.. فلا يوجد لسوء الحظ سوى روايات قلائل يمكن أن تُقرأ من البداية إلى النهاية بمتعة لا تخمد أبدًا.. ويبدو أن القراء فيما مضى كانوا أكثر صبرًا من قراء اليوم.. كانت وسائل التسلية محدودة.. وكان لديهم الوقت الكافي لقراءة روايات تبلغ من الطول ما نعده اليوم شاذًا.. ومن الجائز أنهم لم يكونوا يضيقون بما يقطع مجرى الحكاية من استطراد وحشو.

لكن بعض الروايات التي تعاني من هذه العيوب تعد بين أعظم الروايات التي كتبت على الإطلاق.. ولهذا فمن المؤسف أن يقل قراؤها شيئًا فشيئًا.. ومن أجل حث القراء على قراءة هذه الروايات.. يفضل أن يُحذف من هذه الروايات كل ما يخرج عن القصة التي أراد المؤلف أن يحكيها، والتي تعرض لأفكاره الملائمة، كما تعرض بصورة مناسبة الشخصيات التي أبدعها.. وسيجد القارئ أكبر قسط من المتعة في قراءة هذه الروايات.. لو تعلم فن قفز الصفحات، وحذف الأجزاء التي يحسن تركها دون قراءة من النص الأصلي لكل رواية.

وسيصيح بعض دارسي الأدب وبعض الأساتذة والنقاد أن تشويه إحدى الروائع أمر بشع، وأنها يجب أن تُقرأ كما كتبها المؤلف.. ولكن هل يفعلون ذلك حقًا؟.. أعتقد أنهم يتخطون ما لا يستحق القراءة، ويبدو أنهم دربوا أنفسهم على تخطي الصفحات لصالحهم.. وكل ما أعرفه أن التخطي قد يكون هبة من الطبيعة أو شيئًا يجب اكتسابه بالخبرة.. وما إن يبدأ القارئ في التخطي حتى يصعب إيقافه.. ولكن معظم الناس لا يملكون هذه القدرة.. لذا فمن الأفضل بالتأكيد أن يتولى هذه المهمة عنهم أحد المتذوقين القادرين على التمييز بين الغث والسمين.. وإذا أتقن هذا العمل استطاع بذلك أن يقدم للقارئ رواية يستطيع أن يستمتع بقراءة كل كلمة فيها.

فرواية "البحث عن الزمن المفقود" لبروست، وهي أعظم رواية في هذا القرن، بلغت من الطول حدًا بالغًا، وقد يكون من المستحيل اختصارها إلى حجم معقول حتى لو لجأنا إلى الحذف المتعسف.. لقد حققت هذه الرواية نجاحًا ساحقًا.. ويستطيع المعجبون المتعصبون لبروست أن يقرأوا كل كلمة من كلمات الرواية في شغف.. لكن أجزاء الرواية تتباين في قيمتها.. ويبدو لي أن قارئ الغد سيكف عن الشعور بالمتعة وهو يقرأ هذه الفصول الطويلة من كتاب بروست؛ التي كتبها متأثرًا بالأفكار السيكولوجية والفلسفية الشائعة في عصره، والتي اكتشف الناس أن بعض هذه الآراء خاطئة.. وأعتقد أنه في المستقبل قد تظهر طبعة مختصرة من هذه الرواية.. بعد حذف تلك الأجزاء التي يذهب الزمن بقميتها.. والإبقاء على الأجزاء ذات المتعة الدائمة، لأنها من صميم الرواية.. ومع ذلك ستظل رواية "البحث عن الزمن المفقود" في صورتها المختصرة رواية طويلة جدًّا.. ولكنها ستكون رواية رائعة!

ولقد قال كوليردج عن "دون كيشوت" إنه كتاب يقرأ قراءة كاملة مرة واحدة.. أما في المرة الثانية فيمر القارئ على بعض صفحاته فقط.. ولعله يعني بذلك أن بعض أجزائه مملة، بل وتافهة.. بحيث يمكن القول بأنها مضيعة للوقت لو قرأت هذه الأجزاء مرة أخرى.. إنه كتاب عظيم وهام، ويجب على طالب الأدب المتخصص دون شك قراءته قراءة كاملة (وقد قرأته أنا نفسي ثلاث مرات من الغلاف للغلاف).. لكني لا أظن أن القارئ العادي.. القارئ الذي يقرأ للمتعة.. يفقد شيئًا إذا هو لم يقرأ الأجزاء الهزيلة من هذا الكتاب.

من المؤكد أنه سيستمتع أكثر بأجزاء الرواية التي يدور فيها السرد مباشرة حول المغامرات والحوار، بما فيها من متعة وقوة تأثير.. والتي تدور حول الفارس الرقيق وتابعه الواقعي.. وهناك رواية أخرى هامة بلا شك ولكننا نتردد في القول بأنها عظيمة وهي "كلاريسا" لصمويل ريتشاردسن، التي بلغت من الطول حدًا يعجز عنه قراء الروايات اللهم إلا أكثرهم إصرارًا.. ولا أعتقد أني كنت سأعد نفسي لقراءتها أبدًا لولا أني صادفت نسخة ملخصة منها.. وكانت من البراعة بحيث لم أشعر بأنني فقدت شيئًا.

لا غضاضة في الحذف، ولا أظن أن هناك مسرحية أُخرجت ولم يحذف منها قليل أو كثير أثناء البروفات، وكان ذلك في صالحها.. ولا أعرف سببًا يوجب عدم خضوع الرواية لنفس العملية.. والواقع أننا نعرف أن معظم الناشرين لديهم محررون عملهم في القيام بهذه العملية بالذات.. وفي معظم الأحوال يكون ذلك صالح الكتاب الذي يتناولونه.


(*) النص مُقتطع من مقدمة كتاب "عشر روايات خالدة"، للكاتب الإنجليزي سومرست موم، والصادر عن دار المعارف المصرية سنة 1971، بترجمة: سيد جاد وسعيد عبد المحسن.. بتصرف من: محمد خيري الخلَّال.


إرسال تعليق

أحدث أقدم