جزيرة هكسلي.. لا مكان لليوتوبيا وسط عالَم شرير




جزيرة هكسلي.. لا مكان لليوتوبيا وسط عالَم شرير
الكاتب: محمود محمود (*)
يسرُّني أن أُقدِّم إلى قُرَّاء العربية رواية "الجزيرة"، للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي الذي وُلد في عام ١٨٩٤م ومات في عام ١٩٦٤م.. وقد قضى حياته كلها بين الكتب يقرأ ويكتب في محاولة لإصلاح المجتمع بالنقد البَنَّاء ورسم صورةٍ لعالم جديد تتوافر فيه السعادة والحرية للناس أجمعين.
وأخرج هكسلي العديد من الروايات التي اتخذ منها وسيلةً لبثِّ كثير من آرائه التي بشَّر بها.. وهو كاتبٌ متنوع المواهب متنوع الموضوعات.. شغل نفسه طوال حياته بالعلاقة بين العلم والمجتمع، فكتب روايته الشهيرة "عالم جديد شجاع" والتي عبَّر من خلالها عن خوفه من سيطرة العلم سيطرة كاملة على حياة الناس، وأشفَقَ على المجتمع البشري من المغالاة في تطبيق العلم إلى الحد الذي تنتفي معه في حياته العاطفةُ والشِّعرُ وتقديرُ الجَمال.. ففي مثل هذا العالم الذي يقوم على قواعد العلم دون غيرها تصبح الحياة آليةً، وتتلاشى فيه المميزات الخاصة لكل فرد.
كان هكسلي في كتابه هذا متشائمًا في مستقبل البشرية إلى أقصى الحدود.. وبعدما مرت السنون أدرك أن هذا التشاؤم لا يؤدي إلى إصلاح أسباب المعاناة والشقاء.. فأخرج كتابًا آخر أسماه "عودة إلى عالم جديد شجاع" راجع فيه آراءه السابقة، وكان أكثر تفاؤلًا وأشد ميلًا إلى الفكر البَنَّاء، ودعا إلى المزيد من الديمقراطية والحرية، وإلى رفع مستوى المعيشة بضبط النسل وتنظيم الأسرة.. ولبث يفكر في تصوير عالم جديد تتوافر للمرء فيه الحرية والسعادة، وأخيرًا انتهى إلى رسم صورة خيالية لهذا العالم في رواية الجزيرة التي نقدِّمها اليوم إلى القراء.. ولعلها هي آخر ما كتب قبل وفاته.
والرواية تدور حول جزيرة خيالية اسمها "بالا" تقع في بقعة نائية بالمحيط الهادي بعيدة عن حضارات الشرق والغرب، عاش أهلها مائة وعشرين عامًا في مجتمع مثالي توافرت فيه كل أسباب الحرية والسعادة، لا يتقيد بما ألِفْنا من نُظم، فلا هو بالمجتمع الرأسمالي، ولا هو بالمجتمع الشيوعي. أهله متصوفون يؤمنون بالعلم الحديث وإمكاناته، العلم الذي يتحرر به الإنسان، وليس العلم الذي يستعبد الإنسان.. وإن كان العلم في رواية عالم جديد شجاع قد جعل الحياة على الأرض جحيمًا؛ فالعلم ذاته في هذا العالم الجديد قد أقام على الأرض نعيمًا.
وقد تم هذا اللقاء بين الشرق والغرب، وهذا التزاوج بين العلم والإيمان عندما وفد إلى جزيرة بالا طبيبٌ من أهل الغرب يمثِّل العلم الحديث استدعاه حاكم الجزيرة لمعالجته من مرضٍ عُضالٍ ألمَّ به وكاد أن يُودِيَ بحياته، وهذا الحاكم رجلٌ بوذيٌّ مُغرِق في تصوفه، وأفلح الطبيب في علاج الرجل فنشأت بينهما صداقة قوية ترمز للجمع بين العلم والدين، واتخذ الحاكم طبيبه وزيرًا له، وتعاهدَا على إصلاح الأمور في مملكة بالا على هذا الأساس.. وسرعان ما أخذ الناس جميعًا بهذا الأسلوب الجديد من العيش الذي يجمع بين العلم والإيمان.
وبهذه الجزيرة ثروات طائلة من البترول والمعادن أثارت حسد العالم المحيط بها ومطامع المستعمرين وشركات الاستثمار في أوروبا وأمريكا.. فرأى أحد مديري هذه الشركات الذي يملك كذلك الكثير من الصحف أن يبعث إلى بالا وكيلًا عنه ـ هو "ويل فارنبي" ـ أحد المحرِّرين في صحفه، ليستطلع مجالات الاستثمار في الجزيرة، ويلتقي بالمسئولين فيها يدرس معهم إمكان إبرام اتفاق مشترك شبيه بما يحدث عادةً في بلاد الثروة البترولية.
ويصل ويل فارنبي بعد مشقَّةٍ إلى الجزيرة ويجوس خلالها ويتعرف على أهلها وأمورها فيرى العجب الذي يستنكره أولًا، ولكنه لا يلبث أن يقتنع به ويعتقد فيه.. فقد رأى قومًا يأخذون بالصوفية البوذية مسلكًا في حياتهم وبالعلم الحديث طريقًا إلى التقدم والتطور.. والصوفية فوق هذه الجزيرة سبيلٌ لتحرير النفوس من سلطان المادة، وطريقٌ إلى بلوغ الاستنارة الكاملة والوعي الشامل بالتأمُّل العميق في الحياة ومغزاها..وقد أفاض الكاتب في مواضعَ عدَّةٍ من الكتاب في تفصيل الكلام عن البوذية وأشار إلى كثير من معالمها وأعلامها.
وأهل بالا يفيدون من قوة الإيحاء والتنويم المغناطيسي في تعليم الأطفال وعلاج المرضى، ويمكنهم بتأثير عقار يتعاطونه اسمه «الموكشا» أن يعيشوا في أحلام حلوة عذبة يتصلون فيها بالواحد الأحد ويتأملون في خلق السموات والأرض، ويتَّحِدون مع الكون بمظاهره كافة؛ وذلك هدف من أهداف التصوف السامية.
ولأهل بالا فلسفتهم الخاصة في التربية وتنظيم الأسرة، وفي الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقات الإنسانية، والفنون والثقافة، ونظرة الإنسان إلى الموت، والتكنولوجيا الحديثة، وكل شأن من شئون الحياة، متحررين تمامًا من العُقد وقيود الماضي ومن الاستعمار البغيض.. وفي رواية الجزيرة مجال فسيح لعرض هذه الآراء وأمثالها في حوار ممتع؛ لأنها ليست برواية بالمعنى المألوف، فهي تكاد أن تخلو من العُقدة، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، إنما هي قصة لعرض الآراء والأفكار.
ولم يكن هكسلي في كتابه هذا متفائلًا كل التفاؤل بسيادة النظام الجديد؛ لأن العالم ما تزال به كثير من الشرور التي تفتك بمحاولات التقدم وبما تحرزه الشعوب من نعمة الحرية والاستقرار والاستقلال.. وفي قمة هذه الشرور نقمة المطامع المادية والاستعمار؛ ولذلك نرى هكسلي يتخيل في نهاية القصة بأن الطامعين من أهل الغرب يحيكون مع أحد الحكام المستبدين في بلد مجاور لبالا مؤامرة للاستيلاء عليها، فيدخل هذا الحاكم المستبد الجزيرة غازيًا ليحكمها حكمًا مطلقًا ويمنح المستثمر الأجنبي امتيازات يستولي بها على ثروة البلاد.. وبهذا تنتهي القصة وتخضع أرض الأحلام إلى الواقع المرير.

(*) النص مُقتطع بتصرف من مقدمة الترجمة التي قام بها الأستاذ محمود محمود لرواية الجزيرة، للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي.
 

إرسال تعليق

أحدث أقدم