رواية (الأم).. للحياة منافذ أخرى غير الدموع!




رواية (الأم).. للحياة منافذ أخرى غير الدموع!
الكاتب: نجاتي صدقي (*)

وضع جوركي روايته الشهيرة (الأم) بعد ست سنوات من صدور رواية (فوما جوردييف)، أي سنة 1906، وتعتبر هذه الرواية من أهم أعمال جوركي الأدبية؛ نظرًا لأهمية المشاكل التي تعالجها، ولجدتها، ولأسلوبها الفني الخاص.

والمهم في هذه الرواية المتمردة أنها تصور حياة أشخاص وُجدوا فعلًا، كما تتبنى حوادث واقعية معروفة، وبعبارة أخرى إن الأم هي رواية وثائقية.. تدور وقائعها على مظاهرة أول مايو في بلدتي (نيجني نوفوغورود)، و(سورموفي) سنة 1901، وعلى محاكمة أعضاء منظمة للعمال في سورموفي سنة 1902.

ومن الشخصيات البارزة في الرواية (باول فلاسوف)، وأمه (بيلاغيا نيلوفنا)، وما هما في الواقع إلا (بيتر أندريقتش زالوموف) وأمه (أنا كيرولوفنا)، اللذان اشتركا حقيقة في مظاهرة سورموفي سنة 1901.. وقد عاش بطلا الرواية حتى بعد الانقلاب في روسيا.. ففي سنة 1935 ألقت أنا أو بيلاغيا خطابًا في مصنع سيفكابيل بلننجراد، تحدثت فيه عن أحفادها وأبناء أحفادها البالغ عددهم خمسة وأربعين شخصًا.. أما ابنها بيتر أو باول فقد كان في سنة 1935 رئيسًا لمزرعة تعاونية في منطقة سودجنسكسي التابعة لمقاطعة كورسكوي.

كان جوركي قد أصدر روايته هذه متسلسلة في مجلة المعارف سنة 1907، غير أن الرقيب استرعى انتباه الدوائر المختصة إليها، فصدرت الأوامر بمصادرة أعداد المجلة وتمزيقها، وتقديم جوركي إلى المحاكمة.. ففر إلى الخارج وطبع نسخة (ملطفة) من الرواية، ولم تصدر في شكلها الأصلي إلا بعد قيام النظام السوفيتي.. وقد تعرضت الرواية حتى بعد تلطيفها إلى تعنيف شديد من الأوساط الأدبية الروسية.. لكنها وجدت في الوقت ذاته من يناصرها مثل الشاعر المعروف (الكسندر بلوك)، فقد كتب في دفاعه عن الأم يقول: "إننا نتغنى دائمًا بالروسيا، ونصفها بالبلاد الشاسعة، المأهولة، الحزينة، بالإضافة إلى وحدة الأرض، والدولة، والفئات الاجتماعية.. أقول إن هذا التحديد لكلمة (روس) هو تحديد حق، وإن جوركي هو المعبر عنه إطلاقًا.. إنه كاتب روسي صميم، ويشهد بذلك ذكاؤه، والدم الذي يجري في عروقه، والمساعي النبيلة التي يبذلها، والآلام النفسية المبرحة التي ينوء تحت عبئها".

فرواية الأم تعكس الحالة التي اجتازتها البلاد الروسية في الربع الأول من القرن العشرين، كالرغبة في إقامة نظام دستوري ديمقراطي بدلًا من الحكم القيصري المطلق، وهذا هو بطل الرواية (باول فلاسوف) يقول في المحكمة: "القيصرية هي أصفاد تقيد حرية الشعب، وإننا لنطمح في نزعها".

ثم أن شخصيات الرواية تقوم بأدوار مستقلة تُعبر في ذاتها عن فئات مماثلة لها في المجتمع، فوالد باول هو أحد العمال القدامى، لا يجد وسيلة للاحتجاج على ما يعانيه من آلام إلا في السُكر والمشاجرة، والتهجم على زوجته.. أما أم باول فهي امرأة معذبة، يسود نفسها الخوف، لكنها غير يائسة مثل زوجها.. وابنهما (باول) هو شاب طالع طموح، يعي الهدف الذي يرمي إليه.. والشاب (ناخودكا) يمثل التأرجح الفكري والاضطراب النفساني، و(فيسوفشيكوف) يمثل المشاكسة والفوضوية.. و(ربينا) هو الفلاح الذي سار في أثر باول وجماعته.

والأم (بيلاغيا نيلوفنا فلاسوفا) هي محور الرواية، فحياة المصنع قد أرهقتها، وغدت ترتعد فرقًا أمام المتاعب التي تعترض سبيلها، فهي تخاطب نفسها قائلة: "لماذا تعيشين يا بيلاغيا؟.. أللمتاعب والعمل؟.. إنكِ لم تري وجهًا غير وجه زوجكِ.. ولم تعرفي شيئًا سوى الخوف...".

ويقول جوركي فيها أيضًا: "لم تكن الأم مرئية في البيت، فكانت تلتزم الصمت وتعيش دائمًا في انتظار المشاكل والمعارك البيتية.. فجسمها قد ازرق من العمل الشاق، ومن لكمات زوجها العديدة، وهي تنقل خطاها ساكنة وكأنها تخشى أن تطأ شيئًا ما.. لقد كانت دائمًا وديعة، حزينة، خاضعة.

وتعمل بيلاغيا في مصنع يضم العدد الكبير من الشباب، فتحتك بهم بحكم عملها، وتصغي إلى أحاديثهم، فتتنبه فيها أحاسيس جديدة، وتدرك أن للحياة منافذ أخرى غير الدموع.. فتقول الرواية بهذا الصدد: "لقد أدركت الشيء الكثير مما كانوا يتحدثون به، وأحست أنهم وضعوا أصابعهم على مصادر الألم، فآمنت بهم، وأقرتهم في وجهات نظرهم...".

وكانت النتيجة أن تيقنت الأم من أهداف ابنها، فعطفت عليه.. ويقول باول في ذلك: "إنها لسعادة نادرة أن يدعو المرء أمه، أمًا في الدم والروح...".. ويتطور الأمر بـالأم فتنقلب على ضعفها، أو كما تقول الرواية: "وتتنكر في لباس الراهبة، أو الناسكة، وتنتقل بين المقاطعات وعلى ظهرها كيس، أو تمسك بيدها حقيبة.. وكانت أينما حلت ورحلت، سواء في عربات القطارات، أو في السفن، أو في الفنادق، تحتفظ بهدوئها المتزن، وتتحدث إلى الناس بهدوء وجرأة، كامرأة خبرت الحياة طويلًا".. وينتهي بها الأمر إلى الاشتراك في مظاهرة صاخبة يحمل لواءها باول، وتقوم هي بدور الخطيب الميهج.

هذه هي رواية الأم التي كتبها جوركي سنة 1902، وأعاد فيها النظر ثلاث مرات، إلى أن ظهرت إلى الوجود (ملطفة) سنة 1907.. واختلفت الآراء فيها: فمنهم مَن يقول إن شخصياتها مختلقة، ووقائعها مفتعلة.. ومنهم مَن يقول إن جوركي وضع روايته هذه ليرد على كاتب روسي آخر يدعى (أرتسيباشف)، وضع رواية باسم (سانين)، جعل محورها فكرة مفادها أن الإنسان مخلوق ذميم، لئيم بطبعه.. وعلى ذلك يحق للإنسان أن يفعل كل ما يشتهيه حتى ولو قسا على غيره وسبب له الآلام.. ويقول فريق ثالث إن الرواية حقيقية، وأن معظم الأشخاص الذين كانوا يديرون دفة الحكم في البلاد الروسية قد مروا بالمرحلة التي مر بها باول واختبروها بالذات.


(*) من كتاب: (مكسيم جوركي)، للكاتب: نجاتي صدقي، الصادر عن دار المعارف (سلسلة اقرأ) سنة 1956.

إرسال تعليق

أحدث أقدم