حفرة الكاتب الخبيث



حفرة الكاتب الخبيث
إعداد: محمد خيري الخلَّال

ليس من الصعب تخيُّل موقف الكاتب الروسي أندريه بلاتونوف (1899 ـ 1951) من وصفه بـ (الكاتب الخبيث).. وهو الاسم الذي أطلقه عليه جوزيف ستالين، ولا زال يتردد كلما جاء ذكر بلاتونوف.. بالتأكيد ما كان ليُحب ذلك، وربما فضَّل أن يُشار إليه بـلقب (كافكا الروسي).. كما وصفه النقاد بسبب لغته الغرائبية وأجواء قصصه ورواياته الكابوسية التشاؤمية القريبة من عالم الكاتب الألماني فرانز كافكا.

بقي بلاتونوف شبه مجهول للقارئ العربي -على الرغم من أن النقاد في روسيا يضعونه بجانب غوركي وشولوخوف وبولغاكوف باعتباره من أكبر الروائيين الروس الكلاسيكيين في القرن العشرين- حتى أصدرت له دار سؤال عام 2016 ثلاث روايات بترجمة العراقي خيري الضامن؛ هي: الحفرة والأشباح وبحر الصبا.

لكن بلاتونوف لم يكن مجهولًا فقط في العالم العربي.. بل إنه ظل حتى السبعينيات والثمانينيات منسيًّا في بلده روسيا نفسها.. بعد أن مُنعت أكثر قصصه ورواياته من النشر في الصحف ودور النشر من قِبل السلطات السوفييتية التي عمدت إلى عدم نشر أعماله والتعتيم على الأفكار التي تضمنتها منذ أن غضب عليه ستالين.

عندما قامت الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917 تجاوب بلاتونوف مع الأحداث الثورية وتحمس لها وانخرط في العمل الثوري.. لكن ذلك لم يدم طويلًا وبدأت مرحلة القطيعة وقرر الانسحاب، وتراجع عن الحماس الثوري بعد أن شاهد عجز النظام والبيروقراطية وإهمال آلام الناس، وتحويل الإنسان الروسي إلى طفل وديع مطيع يقوم البالغون المركزيون بتلقينه الحكمة.

أسهب بلاتونوف في الكتابة عن الحقبة التي عاشها في كثير من التبصر.. واهتم بالمعدمين وضحايا الأحلام الطوباوية الاشتراكية.. وتُظهر أعماله تنبُّهًا مبكرًا لثغرات هذا النظام، وتنبؤًا بسقوطه منذ مراحله الأولى.. للدرجة التي جعلته يكتب في عام 1928 عن سقوط الشيوعية قبل سقوطها الفعلي، وذلك في روايته "تشيفينغور" التي يعتبرها النقاد أفضل أعماله، وصنَّفوها في عِداد الدون الهادئ والحرس الأبيض والدكتور زيفاجو.. وكانت هذه الرواية سببًا لأول اصطدام سافر وغير متوقع مع نظام الحكم السوفييتي ولأول ضربة يتلقَّاها الرجل من هذا النظام.

اتسمت جميع أعمال بلاتونوف برؤية للعالم يسودها الخوف والفزع وانتظار وقوع الكارثة.. وغالبًا ما يلقى أبطاله حتفهم في نهاية القصة أو الرواية والكثيرون عنده يموتون قبل أن يبلغوا النهاية.. فالموت حاضر في كل ما كتب.. وغالبًا لا يوجد في أعماله متسع لنهايات سعيدة ولا لمعجزات أبطال خارقين.. وفي وسط قصصه نواجه خراب العالم في خضم بحث مضن عن اليوتوبيا.. بحث ينتهي إلى حال من الجنون مع ضياع الهوية، ويبلغ حد تمزيق بعض الشخوص المتصوَّرة.

وعندما اتهمه النقاد بأنه لا يصور سوى الجانب القاتم من الحياة ويتناسى الجمال.. رد عليهم قائلًا: "عن أي جمال تتحدثون.. إنني مشيت فوق الأرض طوال عشرين عامًا ولم ألتق الجمال الخالص الذي تشيرون إليه".

من غير المدهش إذن أن يكون نثره صعبًا إلى حد كبير، وأن تتطلب قراءته قدرًا من التأنِّي.. نشعر في كتاباته بالكثافة، وبأصالة كل كلمة، وتجبرنا نحن القراء على ألا نقفز فوق أي جملة وإنما نتأملها ونفك شفرتها.. فهو كروائي غير سهل وتنطوي نصوصه على مستويات وأبعاد متعددة يوصلها للمتلقي بلغته الروائية الخاصة.. فهو يتجاوز اللغة المتعارف عليها ويخترق معاييرها أحيانًا ويطعن بمقاييس النحو وتركيبة الجمل.. ربما لتدمير وهم عقلانية العالم وخلق الدهشة، أو بالأحرى الصدمة الفنية لدى قارئه.. وذلك قد يكون سببًا في صعوبة ترجمته أيضًا.. فلغته تقوم على نسق لا ينتمي تمامًا إلى الواقعية المباشرة ولا يشبه التهكم المجازي بالكامل.

شأن كل مؤلفات بلاتونوف، تأتي رواية "الحفرة" حزينة أليمة على العموم.. مليئة بالغموض والبؤس والشعور العميق باللا جدوى.. كُتبت في عام 1930، وتختلف المصادر في تأكيد نشرها عندما كان لا يزال حيًّا.. تتمحور الرواية حول منشأة قيد البناء ومرصودة لتغدو صرح الشيوعية مستقبلًا ورمزًا للمجتمع الاشتراكي، غير أن خلافًا بين العمال والفلاحين لا يلبث أن يُفشل المشروع ليتوقف البناء في مرحلة حفر حفرة الأساس.. وتتحول الحفرة معنويًّا إلى مقبرة جماعية حيث يُدفن الأمل.

ظلت الرواية ممنوعة في روسيا من العام 1930 وحتى 1987 نظرًا إلى أفكارها الجريئة في انتقاد البيروقراطية والنظام السوفييتي الشمولي، وفي تناول الحقيقة المُرة حول الفترة السوفييتية وما صاحبها من خروقات إنسانية رهيبة عانى منها كل المجتمع السوفييتي.

يصور بلاتونوف ضحالة القوى التي تنهض أو التي عُهد إليها أو كُلفت من قِبل النظام الاشتراكي ببناء العالم الجديد وعدم كفاءتها.. تلك القوى المطحونة تاريخيًّا، الفقيرة روحيًّا وثقافيًّا.. والتي تؤدي عملها بدافع الخوف والتسخير وتعيش في ظروف غير إنسانية وتقودها نخبة غير نزيهة تسعى لضمان وضعها وأماكنها الدافئة بطرق ملتوية وانتهازية.. والتي تتحدث عن اشتراكية مبتذلة تمارس باسمها سلطتها وتغتصب في سبيل تطبيقها الممتلكات الشخصية دون قانون ولا تعويض، ليتم سحق شرائح اجتماعية بكاملها.

لم يستطع بلاتونوف أن يغفل عن الأثمان الثقيلة التي تستهلك نفسية العمال وطاقتهم الجسدية بينما يستمتع بعض القادة داخل منازلهم.. وهذا ما دفعه إلى التشكيك حتى بقدرة الناس على تحمل الوصول إلى فترة تتحقق فيها الأحلام.. فالشعارات الكبيرة والمبالغة التي يعلكها الأبطال تصبح كاريكاتورية لفرط تكرارها.

والرواية تتضمن تجسيدًا لانهيار الأفكار الشيوعية التي تتجاهل واقع الحياة وإدانة لفداحة التجاوزات والفظائع المرعبة التي اقتُرفت بدعوى تطبيق هذه الأفكار لبناء مجتمع الاتحاد السوفييتي الجديد.. وتتسم بالجرأة في تأكيده على نقد الاشتراكية وهي العقيدة المتبناة من الدولة باعتبارها أداة للسيطرة على الجموع  ونوع آخر من السرقات والنهب وسرقة الروح والجسد.. وهي كما سيتبدَّى في الآخر، قتل لحلم الأطفال والجيل الناشئ وتقويض لكل آمالهم.. الرواية ببساطة ضد اليوتوبيا، وضد الأمل الزائف الذي حملته الاشتراكية، وضد الشعارات الرنانة التي طالما رُدِّدت عقب كل ثورة، والتي سرعان ما تنتهي إلى نقيضها.

إن بلاتونوف مثل شولوخوف في الدون الهادئ، وباسترناك في دكتور زيفاجو، وغيرهم الكثير يصورون بحيوية كيف سحقت طاحونة ثورة أكتوبر الأخضر واليابس في طريقها، ونشعر في أعمالهم بالأنين اللا منقطع لملايين البشر الذين راحوا ضحايا لشعارات بناء العالم الجديد.. الذي ظهر بأنه حلم طوباوي لا يمكن تحقيقه على حساب آلام ودموع الأبرياء.

أزعجت الرواية ستالين، وعلق عليها مندهشًا: "هل نحن القادة حقًّا بهذه البشاعة؟!".. ووصفها غوركي بالرواية ذات الأفكار السوداوية، منوهًا إلى أن هذا ليس وقتها.. كما اعتبرها فارلاموف أحد أفظع الكتب المدونة باللغة الروسية.. قائلًا: "إنها رواية في منتهى الكمال الفني.. لكن هذا الكمال مرعب، يثير الفزع والهلع في نفس القارئ".

يفهم القارئ -بعد قراءة هذه الرواية بالذات- معنى كلمة أرنست همنغواي -بكل قامته الأدبية- حول بلاتونوف، وعمقها، وهي كما يأتي: "بلاتونوف من الكُتّاب القلائل الذين ينبغي أن نتعلم على أيديهم".


المصادر:
رلى راشد، قراءة في رواية الحفرة للروسي بلاتونوف، مجلة العربي الكويتي، العدد 709 ديسمبر 2017.
روان عز الدين، أندريه بلاتونوف صوت الملعونين في الأرض، مجلة الكلمة العدد 118، 2017.
ضياء نافع، خيري الضامن وبلاتونوف، موقع كتابات.
عبد الله حبه، في أدب بلاتونوف، مقدمة الترجمة العربية لرواية الحفرة، دار سؤال.
فلاديمير أكيموف، مائة عام من الأدب الروسي، ترجمة أنور محمد إبراهيم وعلي غالب أحمد غالب، المركز القومي للترجمة.


إرسال تعليق

أحدث أقدم