الثقافة وراء الكلمات






الثقافة وراء الكلمات
الكاتب: طه عبد المنعم

مع احترامي وتقديري للمشاكل التي يثيرها المترجمون بين الحين والآخر، من أول" ما الترجمة الأفضل"، "علماني أم العطار"، مرورًا بتقدير "اسم المترجم على الغلاف "إلى "نقابة للمترجمين"، ولكنها ليست المواضيع الأهم في عالم الترجمة، هناك أمور بالغة الإثارة لدرجة الحيرة، منها ما سأسمِّيه:  "الثقافة وراء الكلمات".

بعد فترة من خوضي مجال الترجمة، بدأت استكشف الكلمات وأدرك أنها تخبئ الكثير، في لغتها الأصلية، وبدأت -صراحة- البحث عن كلمة أخرى تترجمها وتقترب في معناها، هذه اللعبة ظلت ممتعة لفترة طويلة، بالرغم من فشلي الدائم في إيجاد كلمة مترجمة تنقل المعنى بنسبة مئة في المئة، وترضيني، وكنت أعزِّي نفسي بأن المترجم خائن شاء أو أبى، وأردد لنفسي أن خيانة يهوذا هي في حقيقتها -لست واثقًا من معنى كلمة "حقيقتها" في هذا السياق- من تدبير من المسيح لكي يُصلب في النهاية. والحواري المخلص المطيع التصقت به تهمة الخيانة لأبد الآبدين، ربما يعاقبه الرب ويعذبه في جهنم على تلك الخيانة، مَن يدري!

فكنت أستلذ معاني الكلمات وأشفق من أن أحولها للغة أخرى. أنتِ أيتها الكلمة، ستفقدين الكثير منك هناك، في النص المترجم، ما الذي يدفعك للانتقال لثقافة أخرى، بموروثات وعقائد وتقاليد، ستنتزع منكِ الكثير؟  ندخل في صلب الموضوع مباشرة:  الجملة التالية من نص في كوميكس:
People who have been on the move for so long are stuck in limbo, tantalizingly close to their destination.  

يمكن ترجمتها إلى:
الأشخاص الذين يرتحلون لفترات طويلة، عالقون في الضياع، معذبون بالاقتراب من مقصدهم.

يعرف كثيرون أنه يمكن ترجمتها بصيغ مختلفة، ولو عرفت أنها في سياق حديث عن اللاجئين يمكن ترجمتها بصيغ أخرى. ولكن ليس هذا ما أربكني، فحسب قاموس المعاني على الإنترنت: فالفعل Tantalize يعني: to show or promise something that someone really wants: "عَذَّبَ بالتَّرْغِيبِ والمَنْع" أو "ظل يمنيه بالآمال ويعذِّبه بعدم تحقيقها". وهي ترجمة في ضوء النص والسياق، تؤدي المعنى إلى حد كبير، فوضع اللاجئين أنهم وصلوا إلى مكان في أوروبا، بعد رحلة طويلة، يفصلهم عن وجهتهم أو مقصدهم النهائي المرغوب أطول نفق في أوروبا، لكن القوانين والسياسة وأشياء أخرى كثيرة في مكانهم تمنعهم من الاقتراب من مقصدهم/ مصيرهم/ وجهتهم، ولهذا هم عالقون في الليمبو/ أرض الضياع/ البرزخ.

لاحظ أننا في نص كوميكس، بمعنى أنك محكوم بعدد كلمات تضعها في بالونة الحوار، كما أنه من الصعب جدًا وضع هامش. ولكن لماذا تضع هامشًا؟

لم ترضِني ترجمة "tantalizingly" بـ"معذبون"، فالكلمة تحمل مدلولًا أكبر من التعذيب، حتى لو أضفت كلمة "معذبون بدون أمل"، وهو الذي جعلني أبحث قليلًا وراء الكلمة، فوجدت أسطورة أكثر إثارة:

الكلمة أصلها من Tantalus ملك من الأساطير اليونانية، غني بشكل فاحش، يحكم منطقة تقع في تركيا حاليًا، فهو أحد أبناء زيوس Zeus، وحسب التقاليد أن أول جيل من الفانين من أبناء الآلهة يتم دعوتهم لتناول الطعام والشراب، في جبال الأوليمب، على موائدهم. في يوم ما رغب الملك البشري الفاني أن يدعوهم على مائدة فاخرة في مقر مملكته على الأرض، وبالفعل لبى الآلهة الدعوة. ذبح الملك ابنه الوحيد Pelops، الملك المستقبلي للمملكة، ليقدمه على المائدة لهم، نحن لا نعرف تحديدًا لماذا فعل ذلك، البعض يقول تكريمًا لهم وإبداء أنه على استعداد لبذل أغلى ما عنده لهم، والبعض يقول لأنه أراد أن يختبرهم ويعرف هل يعرف الإله حقًا كل شيء! عمومًا العقاب الذي أنزله رب الآلهة زيوس عليه لم يكن لهذه الجريمة فقط، فالبعض يقول إن جريمة الملك تاليتوس أنه سرق شراب nectar وطعام ambrosia، حينما كان مخمورًا، من جبال الأوليمب، وهو مخصص للآلهة فقط ليمنحه للبشر في مملكته ليكتسبوا بعض صفات الألوهية؛ كالخلود، والآخرون يقولون إنه أساء استخدام النعمة الإلهية من خلال الكشف للبشر عن الأسرار التي تعلمها في السماء.

بالطبع اكتشفت صحبة الآلهة المدعوة جرم الملك ولم يقربوا الطعام، ما عادا ديميتر Demeter ربة الخصوبة والنماء، والتي كانت حزينة في ذلك الوقت على اختفاء ابنتها بيرسوفنى Persephone، فأكلت من الطعام المقدم، وبالصدفة كان من كتف الابن المذبوح. أمر زيوس بإعادة الحياة للابن لكي يحكم مكان والده، وطلب من هيفيستوس Hephaestus رب الحدادة والنار صنع كتف عاجي للابن، وأنزل بالأب عقابا شديدا.

العقاب هو ما يهمنا هنا:
حكم عليه زيوس بأن يقف في بركة من الماء العذب، تصل بالكاد للقرب من شفتيه، ولكنه كلما يميل ليشرب ويروي عطشه، تبتعد عنه المياه، وتنساب من بين كفيه كلما رفعها حتى شفتيه. وفوق رأسه فروع أشجار، تتدلى منها فاكهة من كل الأنواع، وكلما مد يده ليقطف منها ويشبع جوعه، تبتعد، بالكاد مسافة لكي لا تطولها يداه. ويظل معذبا بتلك الطريقة للأبد، وهو عذاب أشد في رأيي من عذاب سيزيف Sisyphus أو إكسيون Ixion. يقال إن فنانين صوروا عذاب تاليتوس في لوحات، أحدهم أضاف عذابا آخر، حجارة وصخور تنهمر وتتدحرج من على الجبل وعندما يمد يده ليتحاشاها تتوقف، فيبقى خائفًا مهددًا دائمًا بالسحق والموت. لقد رآه أوديسيوس Odysseus معذبًا بهذه الطريقة خلال تجواله في هاديس، في أوديسا هوميروس.

العذاب المقصود من الكلمة ومن الأسطورة في جوهره "عدم تحقيق الآمال" وهو ما يناسب بشكل دقيق وضع اللاجئين في النص وفي السياق، وفي رأيي الشخصي، أي كلمة أقل مثل "معذب" خيانة للنص، أو على أقل تقدير، تقليل واستهانة بالمعنى المراد، وعلى أعلى تقدير، ترضية وتلاعب مهين. ولكن فى النهاية، تقبل بهذا المرادف. وتتقبل بصدر رحب نعتك بالخائن.

بعدما حكيت تلك الحكاية لزوجتي، اقترحت استخدام الفعل:  "عشم" على اعتبار المثل العامي المصري، "عشِّمتني بالحلق خرمت أنا وداني"، فسألتها ببراءة : وهل تخريم الودان تعذيب؟ عمومًا قربنا خطوة من المعنى.  لاحظ أيضا أن الصفة Sisyphean كلمة مشتقة من أسطورة سيزيف بمعنى العمل الشّاق بدون فائدة، أو العمل الذي لا يكتمل أبدا denoting a task that can never be completed.

الكلمة Tantalus لها استخدامات أخرى داخل اللغة الإنجليزية نفسها مستمد من الأسطورة؛ أهمها أنها تصف نوعا خاصا من خزائن المشروبات؛ صندوق خاص ترى فيه الزجاجات ويستحيل الوصول إليه إلا بمفتاح خاص. ففي عام 1881 اخترع صانع خزائن نيوزيلاندي، خزانة تعرض زجاجات الخمر للعين ولكن لا تستطيع أخذها إلا بمفتاح خاص، وكانت مصنوعة خصيصا للأغنياء للمحافظة على شرابهم من أيدى الخدم أو الأبناء غير المسموح لهم بتناول تلك المشروبات.

مما جعلني أفكر في الثقافة وراء الكلمات، بمعنى أن القارئ الغربي عندما يقرأ تلك الكلمة يستدعي ثقافتها فوريًا ويفهم المراد. استخدامات الكلمة الأخرى ترد على أن ليس شرطًا أن يكون القارئ الغربي على علم بالأسطورة لكي يصله معنى العذاب بعدم تحقيق الأمل المراد المقصود من الكلمة. أما القارئ العربي للنص المترجم، فسيكتفي بما قدمه له المترجم، ويمر عليها بدون أن يستدعي جوهر الكلمة أو الثقافة وراءها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم