تقديم الرواية المصورة من «لعبة العروش»





تقديم الرواية المصورة من «لعبة العروش»
بقلم: چورچ ر. ر. مارتن
ترجمة: هشام فهمي

مرحبًا بك في المجلَّد الأول من مجموعة «لُعبة العروش»، الرِّواية المصوَّرة القائمة على روايتي الفانتازيَّة الملحميَّة التي تحمل العنوان نفسه.

الآن يُسمُّون هذه الأشياء «الرِّوايات المصوَّرة»، أمَّا في واقع الأمر فهي بالطَّبع كُتب هزليَّة (كومِكس) أنيقة كبيرة مطبوعة على ورقٍ لمَّاع، سواء بقَطع الغلاف الصُّلب أم بقَطع الغلاف الورقي التِّجاري، وتُباع في المكتبات بدلًا من محال الكومِكس وأكشاك الجرائد والرُّفوف الدوَّارة في محال الحلوى. لعبارة «رواية مصوَّرة» رنين طيِّب. إنه اسم لطيف وقور محترَم لوسيطٍ فنِّي لم ينَل عادةً إلَّا النَّزر اليسير من الاحترام.

ولا بأس بهذا أبدًا على ما أظنُّ... لكن جذوري مغروسة في القاعدة الجماهيريَّة لعالم الكومِكس، ولذا ستظلُّ هذه الكُتب بالنِّسبة إليَّ دومًا كُتبًا هزليَّةً. مؤكَّد أنها لم تكن هزليَّةً على نحوٍ خاص قَطُّ (عمدًا على الأقل)، فذلك المصطلح انتقلَ إليها من شرائط الرُّسوم الهزليَّة في الصُّحف، وقد سبقَت هذه الكومِكس بعقود. الأمر معقول أكثر في هذا السِّياق، فأغلبيَّة الرُّسوم الهزليَّة في الصُّحف كان هدفها الإضحاك، ولو أن الصُّحف ضمَّت استثناءاتٍ كثيرةً أيضًا، تراوحَت بين عناوين مثل «الأمير الشُّجاع» إلى «فلاش جوردون» و«تِري والقراصنة». لكن «الرُّسوم الهزليَّة» كان المصطلح الدَّارج، وعندما بدأ أوائل النَّاشرين جمع هذه الرُّسوم في كُتب صغيرة مطبوعة برداءةٍ على ورقٍ رخيص وبيع الواحد بعشرة سنتات، أصبحَت هذه كُتبًا هزليَّةً (كومِكس).

وقت نشأتي في نيو چرسي في الخمسينيَّات كنا نُسمِّيها «الكُتب الطَّريفة».

بالطَّبع كان الغرض من بعض الكومِكس هو الإضحاك. «آرشي» ورفاقه، «ميكي» و«دونالد» والخال «سكروچ» (أفضلهم على الإطلاق)، الشَّبح الودود «كاسپر»، «بيبي هيوي»، «لولو الصَّغيرة»، «شوجر وسپايك»، «الخنفسة بايلي»، المرِّيخي المرح «كوزمو»، وكلُّ هذه الحيوانات الطَّريفة. على أن أكثر تلك الكومِكس كان للأطفال الصِّغار، أبسط وأسخف من إشباع هاوٍ كبير للكومِكس مثلي. لدى بلوغي المرحلة الجادَّة التي يجمعون فيها الكومِكس لم أكن قد تجاوزتُ العاشرة والحادية عشرة ثم الثَّانية عشرة، وأنفقُ سنتاتي على قصص البالغين الجادَّة، مثل «باتمان» و«سوپرمان» و«متحدُّو المجهول»، على كومِكس الحروب وكومِكس الوِسترن وكومِكس السيَّارات القديمة المعدَّلة وسيَّارات السِّباق (ولم تكن أسرتي تملك سيَّارةً أصلًا، لكني أحببتُ القراءة عنها)، وعلى عناوين الرُّعب والغموض والخيال العلمي من «إيه إم چي» و«تشارلتون» والشَّركة التي سرعان ما أصبحَت «مارڤل». بعد سنواتٍ قليلة بدأتُ أشتري قصص جميع أبطال «مارڤل» الخارقين أيضًا، «سپايدرمان» و«الأربعة المذهلون» و«الرِّجال إكس» و«المنتقمون»، «ثور» و«آيرون مان» و«آنت مان»، وأحببتها كثيرًا لدرجة أنني بدأتُ أكتبُ إلى أعمدة الرَّسائل الموجَّهة إلى محرِّريها. نُشر بعض رسائلي، وهو ما قادَ إلى اتِّصال هواة كومِكس آخرين بي وإرسالهم مجلَّات الهواة التي يُنتِجونها إليَّ، وهو ما قادَ إلى كتابتي قصصًا لمجلَّاتهم، وهو ما قادَ إلى... ما أنا عليه اليوم. لكنني حكيتُ هذه القصَّة من قبل.

ثم صارَت هناك «كلاسكس إلَّستريتد». ربما كانت تلك هي الرِّوايات المصوَّرة الأولى، روايات مؤثِّرة من الأدب الغربي (مختلطة ببعض الرِّوايات التي كانت، آه، أقل تأثيرًا) مقتبَسة في صورة كومِكس. لم أجمع كومِكس «كلاسكس إلَّستريتد» بالمواظبة التي جمعتُ بها عناوين «مارڤل» و«دي سي»، لكنني اشتريتُ الكثير منها على مرِّ السِّنين، ولاحقًا خلال المدرسة الثَّانويَّة والجامعة قرأتُ كثيرًا من الأعمال الأصليَّة التي اقتُبِسَت منها الكومِكس، لكن أعوامًا كانت لا تزال تفصلني عن تلك التَّجارب. الكُتب الطَّريفة أتَت أولًا. «حكاية مدينتين»، «آلة الزَّمن»، «حرب العوالم»، «توقُّعات عظيمة»، «موبي ديك»، «إيڤانهو»، «الإلياذة»، «آخِر الموهيكيِّين»، «المنزل ذو الجملونات السَّبعة»، «الفرسان الثَّلاثة»، «ألف ليلة وليلة»، وحتى «مكبث»... كلُّها قرأته في البداية في صورة كتابٍ طريف. قبل سنواتٍ طويلة من قراءتي كلمةً لـ«ديكنز» أو «وِلز» أو «ملڤيل» أو «دوما» أو «شيكسپير»، قابلتُ «سيدني كارتُن» و«المسافر الزَّمني» والرُّبَّان «إهاب» و«دارتانيان» والليدي «مكبث» وأنا أتسكَّعُ على صفحاتٍ مصنوعة من ورق الجرائد ومطبوعة بأربعة ألوان. ومع أنني لم أكن قد قرأتُ الكُتب (بعدُ)، فقد التهمتُ القصص التهامًا.

في الخمسينات كانت الكُتب الطَّريفة مثيرةً للجدل. كانت واسعة الانتشار، خاصَّةً بين الأطفال (أمَّا اليوم فجمهور الكومِكس أكبر سنًّا بكثير وأقل عددًا بكثير). لكن آنذاك لم تكن هذه الكُتب مقبولةً. كان هناك طبيب نفسي اسمه فردريك ڤرتام ادَّعى أن الكومِكس تُسبِّب جنوح القُصَّر، وصدَّقه مئات الآلاف من الرَّاشدين الذين يُفترَض أنهم أذكياء. في المدرسة كان المعلِّمون يُصادِرون كُتب الكومِكس ويُحذِّرونك من أن قراءة هذه الأشياء «ستُعفِّن عقلك»، وكانت الأمَّهات يتخلَّصن من مجموعاتك بمجرَّد أن تُوليهن ظَهرك (لكن يسرُّني أن أقول إن أمِّي أنا لم تفعل ذلك قَطُّ). كومِكس الجريمة وكومِكس الرُّعب، وحتى كومِكس الأبطال الخارقين، هذه بالذَّات كانت مكروهةً، يجزم الكبار بأنها كفيلة بتحويل أيِّ طفلٍ سليم إلى مجرمٍ عنيف. أمَّا كومِكس الحيوانات الطَّريفة فكان يُسمَح بها عادةً باعتبارها تسليةً لا تضرُّ.

على أن النُّقَّاد والنَّاشرين انقسَموا حول الكُتب من نوعيَّة «كلاسكس إلَّستريتد». بعضهم أباحَها بناءً على فائدتها، إذ رأوا كيف ساعدَت على تقديم «الأدب الحقيقي» للأطفال، في حين أصرَّ آخَرون على أن الكتاب الهزلي كتاب هزلي، وأن هذه الاقتباسات تضرُّ ضررًا شديدًا بالأعمال العظيمة التي قامَت عليها، إذ إنها تبتذلها وتحرم القارئ مسرَّة قراءة العمل الأصلي. قالوا بعنادٍ إن كتاب «موبي ديك» الهزلي ليس «ملڤيل».

وكانوا محقِّين بالطَّبع، لكنهم كانوا مخطئين أيضًا. نعم، كتاب «موبي ديك» الهزلي ليس «ملڤيل»، ولا يُمكن أبدًا أن يكون «ملڤيل»... لكن القصَّة موجودة رغم ذلك، ومَن قرأ الكتاب الطَّريف منا أثرى معارفه بالإبحار على متن الـ«پيكود» والتعرُّف إلى «إسماعيل» و«كويكويج» والرُّبَّان «إهاب». بالنِّسبة إلى كثيرين كانت كومِكس «كلاسكس إلَّستريتد» بمثابة بابٍ إلى المخدِّرات، وتركَتنا راغبين في الأصناف الأقوى... الرِّوايات الأصليَّة.

الكتاب الهزلي ليس الكتاب، والرِّواية المصوَّرة ليست الرِّواية، والشَّيء نفسه ينطبق -طبعًا- على السِّينما والتِّليفزيون. عندما ننقل قصَّةً من وسيطٍ إلى آخَر، ومهما حاولنا أن نكون مخلصين، فهناك بعض التَّغييرات المحتَّمة. لكلِّ وسيطٍ متطلَّباته وقيوده وطريقته الخاصَّة في حكاية القصص.

ثمَّة حيثيَّات لسلسلتي الفانتازيَّة الملحميَّة «أغنيَّة الجَليد والنَّار» تجعل ترجمتها إلى أيِّ وسيطٍ بصري عملًا في غاية الصُّعوبة. طبيعتها الضَّخمة، كلُّ هذه المشاهد، كلُّ هذه البقاع، قائمة شخصيَّات بالآلاف، تعقيد حبكاتي الأساسيَّة والثَّانويَّة، علاوةً على البناء الرِّوائي، فالأحداث مرويَّة بضمير الغائب، ومتشابكة مع وجهات نظر شخصيَّاتٍ عديدة مختلفة. في الرِّوايات أستعينُ كما يحلو لي ببعض الأساليب الصَّالحة تمامًا للأعمال النَّثريَّة، ولا تَصلُح بالقدر نفسه -أو على الإطلاق- لوسيطٍ بصري، كمناجاة النَّفس والاسترجاع والرُّواة غير الموثوقين. إنني أكافحُ لوضع القارئ داخل عقول شخصيَّاتي وإطلاعه على أفكارها وجعله يرى العالم بأعيُنها، في حين لا يستطيع كُتَّاب السِّيناريو أو محرِّري الكومِكس أن يفعلوا شيئًا من هذا من دون اللُّجوء إلى وسائل خرقاء، كالتَّعليق الصَّوتي أو بالونات الأفكار. لهذه الأسباب كلِّها قضيتُ سنواتٍ حاسبًا أن «لُعبة العروش» والأجزاء التَّالية لها لن تُقتبَس أبدًا، لا في السِّينما ولا في التِّليفزيون، وبالتَّأكيد ليس في الكُتب الطَّريفة. مستحيل.

 وهو ما يُريك ما أعرفه.

فيما أكتبُ هذا، ختمَ المسلسل التِّليفزيوني «لُعبة العروش» موسمه الثَّاني بعد موسمٍ أول بالغ النَّجاح رشَّحه لجائزتَي «الإمي» و«الجولدن جلوب» ولكثير غيرهما من الجوائز الكُبرى، وكانت المراجَعات ممتازة، وكذا معدَّلات المشاهدة.

والآن الرِّواية المصوَّرة بين يديك.

دعني أوضِّحُ شيئًا واحدًا: هذا ليس ملحقًا للمسلسل التِّليفزيوني. ما أنت على وشك قراءته اقتباس أصيل لرواياتي. الفريقان الإبداعيَّان المسؤولان عن هاتين النُّسختيْن البديلتيْن من حكايتي -«دانيال إبراهام» و«تومي پاترسون» للكومِكس، و«ديڤيد بنيوف» و«دي بي وايس» (بمساعدة وشراكة «برايان كوجمان» و«چاين إسپنسون» وأنا) للمسلسل التِّليفزيوني- عملا من المادَّة المصدر نفسها وواجَها بعض التَّحديات نفسها، لكن كلًّا منهما اضطرَّ إلى التَّعامُل مع مشكلاتٍ تخصُّ وسيطه وحده كذلك. ربما لجأوا إلى بعض الحلول المتشابهة في بعض الحالات، لكنهم انتهجوا طُرقًا مختلفةً تمامًا في حالاتٍ أخرى. لكن إن كنت من المُعجبين بالمسلسل التِّليفزيوني، وتتساءَل عن سبب اختلاف مسارات القصص قليلًا، ولِمَ لا تُشبِه الشَّخصيَّات الممثِّلين الذين رأيتهم على شاشتك... فهأنتذا تعرف الآن.

من ناحيتي، أحبُّ المسلسل التِّليفزيوني، وأحبُّ الكتاب الهزلي... إرر، الرِّواية المصوَّرة... أيضًا. هذا عالمي، وهؤلاء قومي، وهذه ما زالَت قصَّتي التي تُحكى الآن بوسيلةٍ مختلفة في وسيطٍ مختلف، حيث يُمكن لجمهورٍ جديد تمامًا أن يستمتع بها.

القصص المصوَّرة وسيط قائم على التَّعاون، كالسِّينما والتِّليفزيون إلى حدٍّ كبير، وجعل كتابٍ طريف يستحقُّ القراءة يتطلَّب فريقًا كاملًا. هناك كثيرون عليَّ أن أشكرهم على الكتاب الذي بين يديك، بدايةً بناشرَيَّ ومحرِّرَيَّ، «آن جرويل» في «راندم هاوس» و«نيك باروتشي» في «داينامايت»، اللذين رعيا هذا المشروع من البداية إلى النِّهاية. الشُّكر أيضًا لفنَّاني أغلفتنا البارعين، «آلكس روس» و«مايك إس ميلر» و«مايكل كومارك»، الذين زيَّنوا الأعداد الشَّهريَّة ببعض الصُّور الخلَّابة حقًّا.

الرُّسوم الدَّاخليَّة بقلم رصاص الموهوب «تومي پاترسون». لقد شاهَدنا أعمال عشراتٍ من رسَّامي الرَّصاص المختلفين من أجل هذا العمل، فنَّانين موهوبين من جميع أنحاء العالم أرسلوا إلينا عيِّناتٍ نأخذها بعين الاعتبار، ولم يكن القرار بسيطًا على الإطلاق، لكن عيِّنات «تومي» تميَّزت من البداية. بدا أن لديه إحساسًا حقيقيًّا بعالم «وستروس» وأهلها، ولم يُضاهِه في شغفه بالمشروع أحد. ودعونا لا ننسَ العمل الرَّائع الذي أدَّاه «آيڤان نونز» في التَّلوين و«مارشال ديلون» في ترقين النَّص.

أخيرًا، لكن بالتَّأكيد ليس آخرًا، دانيال إبراهام» الذي قام وحده بالعمل الشَّاق الخاص بتفكيك الرِّواية إلى صفحاتٍ ولوحات، وقرَّر ماذا يقطع وبِمَ يحتفظ، وتولَّى كتابة السِّيناريو والحوار وتصوُّر المشاهد. «دانيال» تلميذ سابق وصديق مقرَّب، وصاحِب موهبة ثُلاثيَّة قائمة بذاتها، إذ يَكتُب الفانتازيا الملحميَّة تحت اسمه الحقيقي، والفانتازيا الحضريَّة تحت اسم «إم إل إن هانوڤر»، والخيال العلمي (بالتَّعاون مع «تاي فرانك») تحت اسم «چيمس إس كيه كوري»، ويفعل كلَّ هذا بامتياز. هذا الكتاب الهزلي... إرر، هذه الرِّواية المصوَّرة... عمله بقدر ما هو عملي، ولولاه لما كان لها وجود.

سلسلة روايات، مسلسل تليفزيوني، كتاب هزلي. ثلاثة وسائط مختلفة، لكلٍّ منها نقاط قوَّته ونقاط ضعفه، ومتعته وإحباطاته... لكن في النِّهاية تحكي كلُّها القصَّة ذاتها. إذا استمتعت بالكُتب أو المسلسل فإننا نأمل أن تروقك هذه الصِّيغة أيضًا. وإذا كانت «أغنيَّة الجَليد والنَّار» جديدةً عليك، فآملُ بأن تستمتع بزيارة «وستروس» و«وينترفل»، ولقاء «تيريون» و«چون سنو» و«آريا» و«ند» و«سرسي» و«سانزا» و«بران» وبقيَّة الآلاف من شخصيَّاتي (لكن لا تتعلَّق بها أكثر من اللَّازم).

وقد ترغب في قراءة الرِّوايات الأصليَّة حين تَفرُغ من الكومِكس. سيكون هذا رائعًا. مثل الكومـ... إرر، الرِّوايات المصوَّرة... التي أصدرَتها «كلاسكس إلَّستريتد»، قد تكون هذه بمثابة بابٍ إلى المخدِّرات. ثم إن الكُتب الهزليَّة ستُعفِّن عقلك.


 چورچ ر. ر. مارتن
 سانتا فاي
 25 يناير 2012




إرسال تعليق

أحدث أقدم