حياة "والتر ميتي" السرية


 

حياة "والتر ميتي" السرية

تأليف: جيمس ثوربر

ترجمة:  محمود راضي

 

نُشرت هذه القصة القصيرة في مجلة" النيويوركر" في 18 مارس 1939، وتعد أشهر قصة قصيرة كتبها الكاتب الأمريكي جيمس ثوربر، الذي عُرف طيلة مسيرته الأدبية بحسه الفكاهي الساخر في قصصه القصيرة، واقتبست هذه القصة للسينما مرتين ـ وإن كان الاقتباسان مختلفان تمامًا عن القصة الأصلية؛ المرة الأولى في عام 1947 في فيلم من بطولة داني كاي وفيرجينيا مايو، والثانية في عام 2013 في فيلم من إخراج وبطولة النجم بن ستيلر، وشاركه البطولة كريستين ويج وشون بين.

 

ـ "سوف نمر".. كان صوت القائد مثل ثلج رقيق مُتكسِّر. ارتدى بذلته الرسمية الكاملة مع قبعته البيضاء المجدولة الخفيضة بأناقة فوق عين رمادية باردة واحدة. "لن ننجح في ذلك يا سيدي، لو سألتني عن رأيي، فإن اعصار يستلبها". قال القائد: "أنا لا أسألك عن رأيك أيها الملازم بيرج، شغل أضواء الطاقة، وارفع السرعة إلى8500.. سوف نمر". تصاعدت دقات المحرك: تا-بوكيتا-بوكيتا- بوكيتا- بوكيتا- بوكيتا. حدق القائد إلى الجليد المترسب على نافذة الطيار. داس بالقدم ولف صفًّا من اقراص المعقدة. صرخ: حوّل إلى الاحتياطي رقم ."8 وكرر الملازم بيرج: "حول إلى الاحتياطي رقم .8صرخ القائد: "فليعمل البرج الثالث بطاقته القصوى، فليعمل البرج الثالث بطاقته القصوى". كان أفراد الطاقم المنكبين على مهامهم المتنوعة ينظرون لبعضهم البعض مبتسمين، مندفعين بالطائرة المائية العسكرية البحرية ذات الثماني محركات. قالوا لبعضهم البعض: "سيمر بنا الرجل العجوز، الرجل العجوز لا يهاب الجحيم!"

"لا تسرع هكذا!.. أنت تقود السيارة بسرعة شديدة!". هكذا قالت مدام ميتي: "لماذا تقود بسرعة شديدة هكذا؟"

قال والتر ميتي: "ها!".. نظر إلى زوجته في المقعد المجاور له مذهولًا من الصدمة. بدت غير مألوفة بكل معنى الكلمة، كأنها امرأة غريبة تصرخ فيه وسط حشد. قالت: "كنت تقود على سرعة خمسة وخمسين، أنت تعرف أني لا أحب أن تزيد عن أربعين".. قاد والتر ميتي السيارة في اتجاه ووتربيري في صمت. خفت هدير الطائرة س. ن. 202 الماضية عبر أسوأ عاصفة جرت على مدار عشرون عامًا من الطيران البحري داخل الخطوط الجوية البعيدة القريبة في عقله. قالت مدام ميتي: "أنت متوتر ثانية، إنها واحدة من أيامك تلك، أتمنى لو تدع الدكتور رانشاو يفحصك".

أوقف والتر ميتي السيارة أمام البناية التي ترغب زوجته أن تصفف شعرها بداخلها. قالت:"تذكر أن تحصل على واقيات احذية ريثما أنتهي من تصفيف شعري". قال ميتي: "لست في حاجة لواقيات أحذية".  أعادت مرآتها إلى حقيبتها. قالت وهى تخرج من السيارة: "خضنا هذا النقاش من قبل، أنت لم تعد شابًّا بعد ان". تحرك قليلًا بالسيارة. "لم لا ترتدي قفازيك؟ هل فقدت قفازيك؟" . مد والتر ميتي يده إلى أحد جيوبه، وأخرج القفازين وارتداهما، لكنه خلعهما ثانية بعدما استدارت ودخلت البناية وقاد السيارة نحو إشارة مرور حمراء.

ـ "تحرك يا أخي". احتد الشرطي حين تغيرت اشارة، والتقط ميتي قفازيه على عجالة ومضى قدمًا. قاد السيارة عبر الشوارع على غير هدى لبرهة، ثم قاد قبالة المستشفى في طريقه إلى المرآب...

ـ "إنه المصرفي المليونير ويلنتون ماكميلان" .. هكذا قالت الممرضة الجميلة.

قال والتر وهو يخلع قفازيه على مهل: "أحقًّا؟ من يتابع الحالة؟"

ـ "دكتور رينشاو ودكتور بنباو، ولكن يوجد اختصاصيان هناك: دكتور ريمنتون من نيويورك، والسيد بريتشارد-ميتفورد من لندن، لقد وفد بالطائرة، انفتح باب على ممر طويل وهادئ، وخرج الدكتور رينشاو. بدا مضطربًا ومنهكًا. قال: "مرحبًا يا ميتي، نحن نمر بوقت عصيب مع ماكميلان، المصرفي المليونير وصديق روزفلت الشخصي والمقرب. إنه يعاني من أوبستريوسوس في القناة المسالكية في مرحلته الثالثة [1]، أود أن تلقي نظرة عليه. قال ميتي: "يسرني ذلك".

في غرفة العمليات، جرى التعارف همسًا: "دكتور ريمنتون، دكتور ميتي، السيد بريتشارد-ميتفورد". قال بريتشارد-ميتفورد أثناء مصافحة ايدي: “قرأت كتابك عن سماط الجلد، أداء عظيم يا سيدي".

قال والتر ميتي: "شكرًا لك".

دمدم ريمنتون :"لم أعرف أنك في الولايات المتحدة يا ميتي، لم يكن هناك طائل من استدعاء ميتفورد وإياي إلى هنا من أجل حالة في مرحلتها الثالثة".

قال ميتي: "يا لطيبتك!".

بدأت آلة عملاقة ومعقدة ومتصلة بطاولة العمليات وذات أسلاك وأنابيب عديدة في هذه اللحظة في إصدار الصوت: بوكيتا- بوكيتا- بوكيتا.

صرخ أحد المتدربين: "المخدر الجديد ينسرب، لا أحد في الشرق يعرف كيفية إصلاح هذا".

قال ميتي بصوت خفيض وهادئ: "اهدأ يا رجل!".. انطلق نحو الة السائرة على نغم بوكيتا- بوكيتا- كويب- بوكيتا- كويب. بدأ يلف بأصابعه صف من اقراص اللامعة.

صاح قائلًا: "أعطوني قلم حبر!". ناوله أحدهم قلم حبر. سحب مكبسًا متعطِّلًا من الة وأدخل محله القلم. قال: "هكذا سيصمد لعشر دقائق، استمروا في إجراء العملية".

هرعت ممرضة وهمست لرينشاو، ورأى ميتي الرجل يصير شاحبًا.

قال رينشاو متوترًا: "إذا أردت أن تباشر العملية يا ميتي، فقد وضعنا "الكوريوبسيس". التفت ميتي إليه، وإلى مظهر بنباو الجبان الثمل، وإلى الهلاك في وجوه غير متيقنة لاختصاصيين قديرين.

قال: "كما تشاء"، ارتدى في عجالة رداء أبيض، ضبط القناع ووضع قفازان رفيعان، وناولته الممرضة شيئًا يلمع...

ـ "عد بها إلى الوراء يا صاح!. احترس من سيارة البويك هذه". داس والتر ميتي على المكابح.

ـ "صف خاطئ يا صاح". هكذا قال مراقب المرآب، ناظرًا عن قرب إلى ميتي. دمدم ميتي: "يا للمسيح!. نعم".  بدأ الرجوع في حذر لخارج الصف المميز بلافتة "للخروج فقط".

قال المراقب: " “دعها تقبع هنا، سأركنها بعيدًا"، خرج ميتي من السيارة.

ـ "يُفضل أن تترك المفاتيح".

قال ميتي: "أوه"، ناول ميتي الرجل مفتاح التشغيل، وقفز المراقب داخل السيارة، وأرجعها بطريقة متغطرسة، وركنها حيث تنتمي.

فكر والتر ميتي وهو سائر في الشارع الرئيس: "إنهم متكبرون جدًّا، يظنون أنهم يعلمون كل شيء". ذات مرة، حاول أن يفك سلاسل سيارته خارج نيو ميلفورد، وقد لفهم حول محاور العجلات. تحتم على رجل الخروج وهو يقود سيارة حاملة للحطام كي يفكها حارس مرآب شاب عابس الوجه، ومنذ ذلك الحين، باتت السيدة ميتي تدفعه دومًا لقيادة السيارة إلى أحد المرائب من أجل فك السلاسل.

أطرق مفكرًا: "في المرة القادمة، سأضع ذراعي اليمنى في حمالة طبية، وحينها لن يعبسوا في وجهي، ستكون ذراعي اليمنى موضوعة في حمالة، وسيرون أني لا استطيع فك السلاسل بنفسي. ركل القمامة على الرصيف. قال لنفسه: “يا لواقيات احذية"، وبدأ البحث عن متجر للأحذية.

حين خرج إلى الشارع ثانية، حاملًا واقيات احذية في صندوق تحت ذراعه، بدأ والتر ميتي التساؤل عن الشيء الآخر الذي أخبرته زوجته بأن يحضره. أخبرته مرتين قبل أن يتحركا من منزلهما إلى ووتربيري. كره هذه الرحلات اسبوعية إلى البلدة على نحو ما، كان دومًا يختلط عليه امر. أطرق مفكرًا: "مناديل كلينكس، عقاقير من سكويب، شفرات أمواس؟ لا. معجون أسنان، فرشاة أسنان، بيكربونات، كربورندوم، مبادرات واقتراعات؟ تخلى عن المحاولة، لكنها كانت ستتذكر، كانت ستسأل: "أين ذلك الما اسمه؟ لا تقل لي إنك نسيت الما اسمه؟". صاح الفتى موزع الصحف بشيء ما بخصوص محاكمة ووتربيري...

ـ "ربما سينعش هذا ذاكرتك!". دفع محامي المقاطعة بمُعدة ثقيلة للشخص الهادئ الجالس على منصة الشهود: "هل رأيت هذه من قبل؟"

أخذ والتر ميتي المسدس وفحصه بعين خبيرة. قال بهدوء: "هذا مسدسي ويبلي-فيكرز 50.80". سرت غمغمة مهتاجة في قاعة المحكمة. طرق القاضي طلبًا للهدوء.

قال محامي المقاطعة ملمحًا: "أنت ماهر في التصويب بأي نوع من اسلحة النارية، أليس كذلك؟".

ـ "أعترض!". هكذا صاح محامي ميتي: "لقد أوضحنا أن المُدعى عليه لم يكن يقدر على إطلاق الرصاصة. لقد أظهرنا أنه كان يضع ذراعه اليمني في حمالة طبية في ليلة الرابع عشر من يوليو".

رفع والتر ميتي يده هنيهة، وهدأ المحاميان المتشاحنان.

قال بهدوء: "بأي نوع من اسلحة، كان يمكنني قتل جريجوري فيتزهيرست من على بعد ثلاثمئة قدم بيدي اليسرى".

ساد الهرج والمرج في قاعة المحكمة، وارتقت صرخة سيدة فوق فوضى المكان، وفجأة، كانت هناك فتاة جميلة داكنة الشعر بين ذراعي والتر ميتي. هاجمها محامي المقاطعة بوحشية، وترك ميتي الرجل ينال الضربة في منتصف الذقن دون القيام من مقعده. "يا لك من كلب تعس!".

ـ "بسكويت للكلاب!". هكذا قال والتر ميتي، وبزغت مباني ووتربيري من قاعة المحكمة الضبابية وأحاطت به من جديد. ضحكت سيدة كانت تمر بالجوار، وقالت لرفيقتها: "كان يقول بسكويت للكلاب، هذا الرجل كلم نفسه قائلًا بسكويت للكلاب".

حث ميتي الخطى، توجه إلى أحد محلات إيه آند بي، ولم يكن أول ما صادفه في الشارع باستثناء محل أصغر وأبعد.

قال للبائع: "أريد بعض البسكويت لكلاب صغيرة الحجم والسن".

ـ "أتريد صنفًا بعينه يا سيدي؟".

فكر بسرعة أسرع طلقة رصاص في العالم.

قال والتر ميتي: "مكتوب على العلبة :الجراء تنبح لرؤياها".

هذا ما رآه ميتي في إمعانه في ساعة يده: ستفرغ زوجته من مهمتها لدى مصفف الشعر خلال 15 دقيقة، إلا لو واجهتهم مشكلة في تجفيفه، أحيانًا تواجههم مشكلة في تجفيفه. لم تود الذهاب إلى الفندق أولًا، كانت سترغب منه أن ينتظرها هناك كالعادة. عثر على كرسي جلدي كبير في الرواق قبالة نافذة، ووضع بجواره على ارض واقيات احذية وبسكويت الكلاب، والتقط عددًا قديمًا من مجلة ليبرتي وغاص في الكرسي". هل يمكنلمانيا أن تغزو العالم من الجو؟". نظر والتر ميتي إلى صور الطائرات المتفجرة والشوارع المُهدمة

ـ "ضربات المدفعيات أخافت الشاب رالي". هكذا قال الرقيب.

تطلع إليه النقيب والتر ميتي عبر الشعر اشعث.

قال في ضجر: "خذه إلى الفراش مع اخرين، سأطير بمفردي".

قال الرقيب في قلق: "لكنك لا تستطيع يا سيدي، يتطلب امر رجلان للتعامل مع قاذفة القنابل تلك، وأسلحة الدفاع الجوي تقذف نيران الجحيم من الجو. يقع سيرك فون ريختمان[2] ما بين سوليير وهنا".

قال ميتي: "يجب على شخص ما تفريغ هذه الذخيرة، سوف أعبر، أتريد جرعة من البراندي؟".

صب كأسًا للرقيب وكأسًا لنفسه. أرعدت الحرب ودقت الناقوس عند المخبأ، والقصف على ابواب. تصدعت أخشاب وتطايرت شظايا عبر الغرفة.

قال النقيب ميتي دون مبالاة: "هناك شيء يقترب".

قال الرقيب: "هجوم مدفعي من ثلاث نواحي على مقربة".

قال ميتي بابتسامته العابرة الشاحبة: "نحن نعيش مرة واحدة أيها الرقيب، أوليس كذلك؟".

صب كاسًا آخر من البراندي وتجرعه.

قال الرقيب: "لم أر رجلًا قط يستطيع ابقاء على البراندي خاصته مثلك يا سيدي، استميحك العذر يا سيدي".

توقف النقيب ميتي وشد حزام مسدسه ويبلي-فيكرز الي الضخم.

قال الرقيب: "إنها أربعون كيلومترًا عبر الجحيم يا سيدي".

أنهى ميتي كأس براندي أخير. قال بوداعة: "وما الذي ليس كذلك بأية حال؟".

تزايدت ضربات المدفعيات. تصاعدت الرات-تات-تات من الرشاشات، وصدرت من مكان ما البوكيتا-بوكيتا-بوكيتا المتوعدة لقاذفات اللهب الحديثة. سار والتر ميتي إلى باب المخبأ، مُدندنًا أغنية أوبري دو ما بولندي [3]. استدار وحيا الرقيب. قال: "وداعًا!".

شيء ما خبط على كتفه. "كنت أبحث عنك في أرجاء الفندق كافة. لماذا يجب عليك الاختباء في كرسي قديم؟". هكذا قالت السيدة ميتي.

قال السيد ميتي: "اشياء تقترب".

قالت السيدة ميتي: "ماذا؟ هل أحضرت ذلك ال...ما اسمه؟ بسكويت الكلاب؟ ماذا في العلبة؟".

قال ميتي: "واقيات احذية".

ـ "ألم تستطع ارتدائهم في المحل؟".

قال ميتي: "كنت أفكر، ألم يخطر في بالك أن بالي مشغول في بعض احيان؟".

نظرت إليه، وقالت: "سأقيس درجة حرارتك حين أصل معك للمنزل".

توجها عبر ابواب الدوارة التي أصدرت صفيرًا خفيضًا سخيفًا عند دفعها. كان على بُعد بنايتين من المرآب. قالت عند الصيدلية على الناصية: "انتظرني هنا، نسيت شيئًا ما، لن أستغرق دقيقة".

غابت أكثر من دقيقة. أشعل والتر ميتي سيجارة. بدأت السماء تمطر، مطر يختلط بالثلج. وقف يدخن قبالة جدار الصيدلية

أرجع كتفيه وكعبيه للوراء معًا. قال والتر ميتي في ازدراء: "فليذهب المنديل إلى الجحيم".

سحب آخر نفس من سيجارته وقذفها بعيدًا، وبعدها، مع تلك الابتسامة العابرة الشاحبة المنسربة على شفتيه، واجه فرقة إطلاق النار، منتصب القامة من غير حراك، متفاخرًا ومُترفعًا. والتر ميتي الذي لا يُهزم، الغامض حتى النهاية.

 

الهوامش:

[1] لا يوجد مرض بهذا الاسم، وقد اختلقه والتر ميتي من وحي اللحظة في حلم يقظته

[2] اسم مُتخيل لسرب طائرات ألمانية

[3] في اصل Auprès de ma blonde، وهي أغنية فرنسية شعبية

إرسال تعليق

أحدث أقدم