مارك توين: في تآكل فن الكذب


 

في تآكل فن الكذب

تأليف: مارك توين

ترجمة: طه عبد المنعم

 

(مقال، للنقاش، تمت قراءته أمام اجتماع لنادي المؤرخين والأثريين في هارتفورد، وتم تقديم جائزة من ثلاثين دولارًا.. لم أقبل الجائزة.)

 

انتبه، أنا لا أقصد الإشارة إلى أنَّ عادات الكذب تعاني من التآكل أو التعطيل.. لا، فالكذبة كفضيلة، وكمبدأ، أبدية.. الكذبة، كتسلية، وكعزاء، وكملجأ لوقت الحاجة، هي النعمة الرابعة، ومصدر الوحي العاشر، أفضل وأضمن صديق للإنسان، خالدة، ولا يمكن أن تموت من على ظهر الأرض طالما هذا النادي قائم.

ببساطة شكواي تخص تحلُّل فن الكذب نفسه. فلا يمكن لرجل نبيل أو لديه حس منصف أن ينظر للكذب القذر في وقتنا الحالي دون أن يحزن على رؤية فن نبيل يتم إلقاؤه في بئر العُهر.

في حضوركم المخضرم، أسعى للدخول في هذا الموضوع بقليل من الخجل والرهبة، الأمر يشبه أن تحاول خادمة عجوز تعليم شؤون الحضانة للأمهات في إسرائيل. فليس ممكنًا أن أنتقدكم، أيها الرجال النبلاء، فتقريبًا جميعكم شيوخ، ومتفوقون في هذا الأمر، وإذا كان يبدو أني بين الحين والآخر أفعل ذلك، فأنا واثق أنه في كثير من الحالات نابع من روح الإعجاب أكثر من تصيُّد الأخطاء. في الواقع، إذا كان أرقى الفنون الجميلة يحظى في كل مكان بالتقدير والتشجيع والممارسة بضمير، والتطوير الذي يكرِّس هذا النادى نفسه له، فلن أحتاج إلى التفوُّه بهذه المرثية، أو ذرف دمعة واحدة عليه. أنا لا أقول ذلك كتملُّق، بل أقول ذلك بروح الإنصاف وإقرار بالامتنان. (كان في نيتي، في هذه المرحلة، سرد أسماء وإعطاء نماذج توضيحية، ولكن العلامات التي يمكن ملاحظتها في شخصي، أنذرتني بصرامة من الحذر من التفاصيل وتقييد نفسي بالحديث في العموم)

لا توجد حقيقة أكثر رسوخا من أن الكذب ضروري لحياتنا، والاستنتاج الذي يؤدي لكونها فضيلة غني عن القول. فلا يمكن لأي فضيلة أن تصل لفائدتها القصوى بدون ثقافة متأنِّية ودؤوبة. لذلك، من البديهي القول إنه يجب تدريس فضيلة فن الكذب في المدارس العامة، وحتى في الصحف. ما هي الفرص التي يملكها الكذَّاب الجاهل غير المتعلم أمام الكذَّاب الخبير المثقف؟ ما هي الفرص التي أملكها أمام المحامي القدير الأستاذ بيير؟ الكذب هو ما يحتاجه العالم.

في أوقات كثيرة أفكر أنه من الأفضل والأكثر أمانًا عدم الكذب على الإطلاق بدلا من الكذب بغشم. كذبة خرقاء غبية غالبًا ما تكون غير فعَّالة مثل الحقيقة.

الآن، دعنا نرى ماذا يقول الفلاسفة. لاحظ المقولة المهيبة: إن الأطفال والحمقى، دائمًا ما يقولون الصدق. والاستنتاج واضح: الناضجون والحكماء لا يقولون الصدق. المؤرخ باركمان يقول: "تطبيق مبدأ الصدق نفسه عبث." ويقول في موضع آخر من الكتاب: "المقولة قديمة أن الصدق لا ينبغي قوله في كل الأوقات، وأصحاب الضمير المعتل الذين يقلقهم الانتهاك المعتاد للمبادئ هم بلهاء ومزعجين". هذه لهجة قوية لكنها حقيقية. لا أحد منا يستطيع العيش مع شخص معتاد على قول الصدق. ولكن الحمد لله لم يضطر أحد منا لذلك. فالشخص المعتاد على قول الصدق هو مخلوق خرافي. ليس له وجود ولم يكن موجودًا. بالطبع هناك أشخاص يعتقدون أنهم لا يمكنهم قول الكذب، ولكن هذا لا يسمى بالتمدُّن. والجهل به هو أحد الأشياء التى يجب أن نخجل منها. الكل يكذب، كل يوم وكل ساعة. وهو مستيقظ، وهو نائم، في الأحلام، في الأفراح، في الصباح. لو أبقى لسانه ساكنًا، فيداه وقدماه، وعيناه، وسلوكه، ستكشف كلها خداعه وأغراضه. حتى في إلقاء المواعظ الدينية. ولكنه سيكون، عندئذ، في موقف مهين.

في بلدتنا البعيدة عن هنا حيث كنت أعيش، اعتادت السيدات أن تلبي الزيارات، بحجة إنسانية لطيفة، أنهن تُرِدْن رؤية بعضهن البعض، وعندما ترجعن إلى المنزل، يقلن بكل سعادة: "لقد قمنا بست عشرة زيارة، ووجدنا أربع عشرة منهن خارجًا". وهذا لا يعني أنهن اكتشفن شيئًا خطيرًا في الأربع عشرة زيارة.. لا، فهذا يعني فقط تعبيرًا عاميًا للدلالة على أنهن لم يكن بالمنزل، وطريقة قولهن تعبر عن راحتهن العميقة لما حدث. الآن، هذا التعبير عن رغبتهن برؤية الأربع عشرة هو الشكل الأكثر اعتدالًا وشيوعًا من الكذب الذي يوصف بأنه مجرد تحريف للحقيقة.

هل يمكن تبريره؟ بكل تأكيد. فهو جميل ونبيل، فمراده، ليس لجني مكسب، لكن لنشر السرور لدى الستة عشر كلهن. الذي يصر على مبدأ قول الحقيقة سيظهر بوضوح ـ في هذه الحالةـ وسيجادل في أنه لا يريد رؤية هؤلاء الأشخاص، وسيظهر بمظهر الأبله والغبي، وسيسبب ضررًا وإحراجًا ليس له فائدة على الإطلاق، وبالتالي، لهؤلاء النسوة في بلدتنا البعيدة، لكن لا تشغل بالك بهن، فلديهن مئات التعبيرات اللطيفة للكذب، والتي تنشأ من دوافع طبيعية، وترجع إلى لباقتهن وطيبة قلوبهن. دعنا لا نتحدث عن نماذج محددة.

الرجال فى تلك البلدة البعيدة كذابون، كل واحد فيهم كذَّاب. كل ما يعرفون فعله هو الكذب، لأنهم لا يهتمون بما تفعل أو بحالك، إلا متعهدو دفن الموتى بالطبع. للشخص العادي فإنه يفهم أنك تكذب، لأنك ليس لديك ضمير تحكم به على حالتك، وتجاوب بشكل عشوائي، وغالبًا ما تخفق كثيرًا. فأنت تكذب على متعهد الدفن، وتقول له إن صحتك تتدهور، وهي كذبة جيدة فعلًا، فهي لن تكلفك شيئًا وسترضيه.

لو ناداك غريب وقاطعك خلال عملك المهم، فستقول له بنبرة حماسية: "أنا سعيد برؤيتك."  ولكنك من كل قلبك تقول: "يا ليتك مع آكلي لحوم البشر ويكون موعد عشائهم". وعندما يهم بالمغادرة تقول بنبرة حزن: "أيجب عليك الذهاب؟" وتليها بدعوته مرة أخر بالزيارة. أنت لم تسبب ضررًا، ولم تخدع أو تلحق الأذى بأي شخص. في حين أن الحقيقة ستجعلكما غير سعيدين.

أعتقد أن كل الكذب المجامل هو فن جميل ومحبب، وينبغي تنميته. أرقى لإتقان للباقة هو صرح جميل، مبني من القاعدة إلى القمة، بأشكال رشيقة ومذهبة من الكذب الخيري وغير الأناني.

ما يحزنني هو الانتشار المتزايد من الصدق القاسي الى حد مؤلم. دعنا نفعل ما في وسعنا للقضاء على هذه الموجة. الصدق المؤذي ليس مختلفًا عن الكذب الضار، ولا ينبغي أن ينطق به أبدًا. الرجل الذي يقول الصدق المؤذي خِشية على روحه من ألا تحصل على الخلاص لو فعل خلاف ذلك، يدل على أن روحه لا تستحق الخلاص من الأصل. أما الرجل الذي يقول كذبة ليساعد بها شيطانًا مسكينًا للخروج من مأزق، فهو الرجل الذي تقول له الملائكة بدون شك: "عجبًا، هذه روح بطولية تعرض نفسها للتهلكة في سبيل إنقاذ أخيه، دعنا نُشيد بهذا الكذَّاب الشهم".

الكذبة الضارة هي شيء غير مستحسن، وأيضا، وفي نفس الدرجة، الصدق المؤذي، فهي حقيقة يُعترف بها في قانون التشهير.

من بين الأكاذيب الشائعة، لدينا الكذبة الصامتة؛ الخداع الذي ينقله المرء ببساطة عن طريق الحفاظ على الصمت وإخفاء الصدق. ينغمس العديد من قائلي الصدق العنيدون في هذه الممارسة، فيعتقدون أنهم لو لم يقولوا كذبة، فهم لا يكذبون على الإطلاق. في البلدة البعيدة التي عشت فيها يومًا، سيدة طيبة، دوافعها دائمًا نقية وراقية، كما أن شخصيتها تتماشى مع دوافعها. يومًا ما كنت عندها للعشاء، فذكرت، بطريقه عابرة، أننا كلنا كاذبون. اندهشت وقالت: "ليس كلنا!" وكان هذا قبل وقت عرض "بينافور"، لذلك لم أرد الرد الطبيعي الذي أرد به هذه الأيام، ولكني رددت بكل صراحة: "نعم، كلنا.. نحن كلنا كاذبون. ليس هناك استثناءات". نظرت إليَّ وكأنها شهَّرت بالإهانة: "لماذا تشملني معهم؟". فقلت: "بكل تأكيد، أعتقد أنكِ في مرتبة الخبير!". فقالت: "ششش، الأطفال!". لذلك تم تغيير الموضوع احترامًا لوجود الأطفال، وذهبنا في الحديث عن أشياء أخرى. ولكن بمجرد أن خرج الأطفال، عادت السيدة إلى فتح الموضوع بحرارة وقالت: "لقد وضعت لنفسي قاعدة في الحياة ألا أتفوَّه بكذبة أبدًا، ولم أتزحزح عنها أبدًا". فقلت: "أنا لا أقصد إساءة أو عدم احترام، لكنكِ تكذبين مثل تصاعد الدخان من النار منذ جلست هنا، مما تسبب لي في كثير من الضيق، فلست معتادًا على ذلك". فطلبت مني مثالًا.. مجرد مثال واحد على ما أقول. فأخبرتها: "حسنًا، أرسل لكِ مستشفى أوكلاند، نسخة من استبيان غير مملوء بيد ممرضة حضرت لهنا، والتي تقوم بتمريض ابن أختك من إصابته الخطيرة. كان الاستبيان يسأل أسئلة عن سلوك الممرضة من نوعية: "هل نامت خلال تأدية مهامها الوظيفية؟". هل نسيت يومًا ميعاد تقديم الدواء؟.. وهلم جرا. لقد تم تنبيهك بالحرص الشديد والصراحة في إجابتك. لأن الفائدة الكبرى من الخدمة التمريضية هي تغريم الممرضة فوريًا أو معاقبتها بطرق أخرى عند تقصيرها في عملها.

لقد أخبرتني أنكِ مسرورة من تلك الممرضة، فهي لديها ألف إتقان وعيب واحد فقط؛ وهو أنها لا يُعتمد عليها في تغطية المريض بشكل كافٍ، بينما ابن أختك يجلس في المقعد البارد ينتظر أحدا ليُرتب سريره. لقد قمتِ بملء نسخة الاستبيان وأرسلتها بيد الممرضة إلى المستشفى. كيف أجبتِ عن سؤال: "هل كانت الممرضة في أي وقت مذنبة بإهمال كان من المحتمل أن يؤدي إلى إصابة المريض بالبرد؟" . حسنًا، كل شيء يتم تقريره برهان هنا في كاليفورنيا! أراهنك بعشرة دولارات مني ضد عشر سنتات منك أنكِ كذبتِ في إجابتك عن هذا السؤال. قالت: "لم أفعل، لقد تركت تلك الخانة فارغة".  فقلت:"أهكذا! أنتِ إذن قلتِ كذبة صامتة، لقد تركتيها مستنتجة أنكِ لم ترتكبي أي ذنب".  قالت: "أهذه كذبة! وكيف أذكر ذلك الخطأ الواحد، وهي جيدة في باقي النواحي، فهذا قاسي جدًا عليها". قلت: "ينبغي على المرء الكذب دائمًا، حينما يكون بوسعه جني الخير منه، فدوافعك صحيحة لكن حكمك مخطئ، وهذا يأتي من الممارسات غير الذكية، الآن انظري إلى عواقب فعلتك. فأنتِ تعرفين أن طفل مستر جونز يرقد منذ فترة بسبب الحمى القرمزية، وكانت توصيتك متحمسة جدًا لدرجة أن تلك الممرضة ذهبت لتمرِّض الطفل هناك، والعائلة المنهكة نامت مطمئنة طوال الأربع عشر ساعة الماضية، تاركين طفلهم العزيز في عهدة تلك الأيدي القاتلة، لأنك مثل، جورج واشنطن الصغير، لديك ثقة في الآخرين. ومع ذلك، إذا لم يكن لديك شيء لتفعليه، فسآتيكِ غدًا لنحضر الجنازة معًا. فأنتِ، بطبيعة الحال، ستشعرين بشعور خاص تجاه حالة الطفل ويلي، بشكل شخصي، في الحقيقة، ستشعرين كمتعهد الدفن".

ولكن لم تنتهِ القصة بعد، فقبل مغادرتي المنزل، ركبت السيدة عربة بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة إلى منزل آل جونز لتنقذ ما تستطيع إنقاذه من حياة الطفل ويلي وتخبرهم بكل ما تعرفه عن تلك الممرضة القاتلة. ولكن كل هذا كان غير ضروري، فالطفل لم يكن مريضًا، فأنا نفسي كنت أكذب عليها. لكن في نفس اليوم، وفي نفس التوقيت، أرسلت السيدة خطابًا إلى المستشفى تملأ فيه الخانة الفارغة التي تركتها قبلا، تذكر فيها الحقائق، بكل صراحة ووضوح ممكن.

وهكذا ترون أن خطيئة السيدة ليس الكذب، ولكن غلطتها هو الكذب المؤذي. كان ينبغي لها أن تقول الحقيقة، في هذه الحالة، وتضيف بعض المجاملات المخادعة في الاستبيان. كان بإمكانها القول: "من وجهه نظري هي مثال للإتقان، في فترة خدمتها، لا تشخر أبدًا". أي كذبة خفيفة ستكفي لنزع وخز التعبير المزعج، ولكن ضروري، للصدق.

الكذب أمر عالمي..  كلنا نكذب. لهذا، فالحكمة تتطلب أن ندرب أنفسنا على الكذب بشكل مدروس، بتعقُّل وتروٍّ، أن نكذب لهدف طيب، وليس لهدف شرير.. أن نكذب لمصلحة الآخرين، وليس لمصلحتنا. أن نكذب بشفافية، وإحسان، وإنسانية، وليس بقسوة، أو إساءَة وضرر.. أن نكذب بلطافة وبلباقة، وليس بسماجة وحماقة.. أن نكذب بصراحة وحزم وإخلاص.. برؤوسنا مرفوعة وليس بتردد أو بشكل ملتوٍ ووجه جبان وكأننا نخجل من دعوتنا السامية. حينئذ سنتخلص من المكانة المهلكة للصدق التي تنخر في عالمنا. وعندها سنكون عظماء وجيدين وصالحين، ونصبح جديرين بسكن هذا العالم حيث الطبيعة الحميدة تصبح معتادة الكذب، إلا في حالة أن تعدنا بطقس لعين.

لكني مجرد طالب غرير وجديد في هذا الفن الجميل؛ فلا يمكنني أن أعظ هذا النادي. لنضع المزاح جانبًا، أعتقد أننا بحاجة ماسة لفحص حكيم لأنواع الكذب التي من الأفضل أن ننغمس فيها ونشتبك معها، بما أننا كلنا يجب أن نكذب وكلنا نكذب بالفعل، وما هي الأنواع التي من الأفضل تجنبها. أشعر بأني أضع ثقة في هذا النادي الخبير للقيام به بهذا الأمر، فإنه الهيئة الرشيدة التي يمكن وصفها، بكل احترام وبدون تملق لا لزوم له، للأساتذة الكبار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم