على باب زويلة.. جثة مُعلَّقة وبلد مقهور




على باب زويلة (*)
الكاتب: طه حسين

كتاب رائع بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها وأصدقها في وقت واحد، كتاب من هذه الكتب النادرة التي تظهر بين حين وحين، فتُحيِي في النفوس أملًا، وترد إلى القلوب ثقة واطمئنانًا؛ لأننا نشعر حين نقرؤه بأن الحياة الأدبية في مصر ما زالت خصبة قوية قادرة على الإنتاج، وعلى الإنتاج القيِّم الممتع الذي لا تَتَرَدَّد مصر في أنْ تفاخر به، وفي أنْ تعرضه إذا عرضت الأمم الحيَّة كتبها الممتعة وأدبها الرفيع.

كتاب لم يخرجه صاحبه إلَّا بعد جهد أيِّ جهد، واستقصاء أيِّ استقصاء، وعناء عنيف لا يحب أنْ يحتمل بعضَه كثيرٌ من كُتَّابنا الذين يُحِبُّون الطرق المطروقة والسبل المألوفة، ويكرهون أنْ يَشُقُّوا على أنفسهم بالقراءة المضنية والبحث المتصل، ثم بالتفكير فيما قرءوا والاستنباط مما بحثوا عنه، ثم بالعرض المتقن لما استنبطوا، وبالإبانة الرائعة عما أرادوا أنْ يقولوا لقُرَّائِهِم، وكل هذا قد فعله الأستاذ محمد سعيد العريان، دون أنْ يُظهِر أحد على ما كلَّف نفسه من مشقة، وما حمل عليها من جهد، وما أخذها به من شدة في القراءة والبحث والاستقصاء، ثم بالفقه الجادِّ الحازم الذي لا يعرف ضعفًا، ولا تخاذُلًا، ولا إيثارًا للعافية، ولا كلفًا بالنُّجح اليسير.

وقد أراد الأستاذ العريان أنْ يعرض طَرَفًا من تاريخ مصر، من تاريخها العسير المؤلم الذي تكثُر فيه الحوادث، وتلتوي بالمؤرخين وبقراء التاريخ جميعًا، وهذا الطرف الذي يمثل انقضاء سلطان المماليك في مصر، وزوال الاستقلال المصري بأيدي الفاتحين من الترك العثمانيين، ويكفي أنْ أذكر هذا الموضوع ليشعر القارئ بعُسره ومشقته، وما يفرض على من يريد تحصيله وتمثُّله من جهد وعناء. ثم لم يُرد الأستاذ العريان أنْ يضع كتابًا في تاريخ هذا العصر من عصور مصر، يعرض فيه الحوادث عرضًا دقيقًا مستوفيًا للشروط التي يحرص المؤرخون على استيفائها، ولم يُرد أنْ يتحدث إلى المؤرخين وحدهم، وإنما أراد أنْ يتحدث إلى المثقفين جميعًا، فآثر مذهب القاصِّ على مذهب المؤرخ، وأَعْمَلَ خياله في الوقت الذي أَعْمَلَ فيه عقله، فأضاف بذلك جهدًا إلى جهد وعناءً إلى عناء، ووُفِّق في الأمرين جميعًا توفيقًا أعترف بأني لم أشهد مثله في الأعوام الأخيرة، التي خيل إلينا فيها أنَّ الإنتاج الأدبي في مصر قد أفسده حُبُّ السهولة، وكاد يرده إلى العقم وكسل الكتاب والقُرَّاء جميعًا.

أمَّا من الناحية التاريخية فقد بدأ المؤلف حديثَه بتلك السنين المضطربة التي انتهى فيها مُلك السلطان قايتباي بين طمع الطامعين من الأمراء والولاة، ورؤساء الجند من المماليك، ومضى في طريقه حتى صور أبرع تصوير، وأقواه ما كان من اختصام هؤلاء الأمراء والولاة والرؤساء حول العرش أولًا، وحول المنافع القريبة والبعيدة بعد ذلك، وما كان من تولية وعزل، ومن تتويج وخلع، ومن أَسْرٍ وقتل، وما كان من كيد في القصر وخارج القصر، وما كان يجري على ألسنة الشعب من حديث، وما كان يضطرب في قلوبه من أمل، وما كان يخامر نفسه من يأس، حتى ارتقى السلطان الغوري إلى عرش مصر، فرَدَّ إلى الملك أمنه وإلى السلطان استقراره، ولكنه روَّع النفوس وملأ القلوب هلعًا وفزعًا ولوعة وحسرة؛ لإسرافه على الناس في الظُّلم، وإسرافه على نفسه في البخل، وتهالكه على جمع المال، يأخذه بحقه ويأخذه بغير حقه، ويطلق أيدي أعوانه في أموال الرعية، حتى يعم الفساد، وينتشر الخوف، وتُظلِم الحياة.

ثم يُستأنف الكيد حول هذا السلطان الشيخ في القصر وخارج القصر، وفي مصر وخارج مصر، ثم ينتهي الأمر إلى الكارثة حين تنشب الحرب بينه وبين العثمانيين، وحين تنهزم الجيوش المصرية، لا عن ضعف ولا عن جهل، ولكن عن خيانة السادة والقادة والرؤساء، ثم تكون المقاومة الأخيرة الرائعة التي يبذلها شعب قد لقي من ظلم المماليك شرًّا عظيمًا، ولكنه على ذلك مؤثِرٌ لاستقلاله حريصٌ عليه، يفضل أنْ يظلمه ملوكه وسلاطينه على أنْ يتحكم فيه الأجنبي، ولا تطيب نفسه عن هذه الإمبراطورية العظيمة ذات الأطراف المترامية في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، وذات الألوية المنتشرة على البحرين جميعًا، ولكن المقاومة لا تُجدِي على هذا الشعب البائس شيئًا؛ لأن المماليك قد نحَّوه عن الأمر، فلم يعتمدوا عليه في تدبير الملك، ولم يقيموا سلطانهم على إرادته ورضاه، ولم يلتمسوا عنده الجنود المدرَّبِين، وإنما استغلوه استغلالًا، ولم يحكموه لمصلحته هو، وإنما حكموه لمصلحتهم.. هذا كله يصوره المؤلف تصويرًا رائعًا، يروع بصدقه وقوته ودقته، وقرب مأخذه وبعده عن العسر والالتواء.

وأمَّا الناحية الخيالية، فليست أقل من هذه الناحية التاريخيَّة روعة وجمالًا، ولعلها أنْ تكون أسحر منها للقلوب وأخلب منها للعقول، وأي غرابة في ذلك وطبيعة الخيال البعيد القوي أنْ يسحر القلوب، ويخلب العقول، ويشغل القارئ عن نفسه أثناء القراءة وبعد انتهاء القراءة.

والكاتب يبدأ قصته في ذلك الغور الذي كان مستودعًا، يجد فيه المماليك مادتهم من الرقيق الذين يُختَطَفون أو يُختَلَسون أو يُؤخَذُون عنوة، ثم يُجلَبُون إلى القاهرة؛ ليتعلموا فيها فنون الحرب والحكم، ثم ليصبحوا جندًا وقادة وأمراء وملوكًا وسلاطين، وليدبروا أمر هذه الإمبراطورية الواسعة البعيدة الأرجاء.

نحن إذن في هذا الغور نشهد أُمًّا تعطف على ابنها الصبي بقلب يملؤه الحنان والحسرة، فهذا الصبي وحيدها، وهو عزاؤها عن أبيه الذي ذهب يطلب ثأر والده، فلم يعد إلى امرأته منذ عشر سنين حتى يئِست من عودته، ووقفت حبَّها وأملها على هذا الصبي، فهي ترعاه يقظان، وتحرسه نائمًا، وهي كذلك ذات ليلة إذ تحس نبأة، فتخرج من خيمتها مستقصية ثم تعود فلا تجد ابنها؛ لأنه قد خُطِفَ كما يُخطَف غيره من أبناء الغور، وقد أقسمت أمه لَتَسْعَيَنَّ في طلبه حتى تدركه أو يدركها الموت.

من هنا تبدأ القصة، ومن هنا يسلك بنا الكاتب طريقين متوازيتين؛ إحداهما: طريق الصبي طومان الذي يذهب به خاطفه إلى بلاد الروم، ثم إلى الإمبراطورية المصرية، حيث يباع لأمير القلعة في حلب، ثم يمضي مع سيده الذي يصبح عَمَّه ذات يوم — وما أحب أنْ أفصِّل ذلك للقراء، فقد ينبغي أنْ يلتمسوا تفصيله في الكتاب — وما يزال الصبي طومان يمضي في طريقه إلى المجد، متحملًا للخطوب، مصابرًا للأحداث، مذللًا للعقاب، حتى يرقى عَمُّه عرش مصر، وحتى يصبح هو مستشاره وذراعه اليُمْنَى في تدبير الملك، ثم خليفته على مصر حين يذهب للقاء العثمانيين، ثم خليفته على العرش بعد أنْ يُقتَل في الموقعة، ثم زعيم المقاومة المصرية حتى يتفرق عنه الجند منهزمين، ثم طريدًا يغدره أعرابيٌّ فيسلمه إلى سلطان العثمانيين، ثم أسيرًا يُطاف به في القاهرة، ثم قتيلًا قد عُلِّقَتْ جثته على باب زويلة.

أمَّا الطريق الثانية فهي طريق الأم التي خرجت من الغور تطلب ابنها، فهي تَمُر ببلاد الروم، ثم بالإمبراطورية المصرية، وهي تلقَى في هذه الطريق أهوالًا وأهوالًا، وهي لا تعرف مكان ابنها إلَّا بعد أنْ يُقتل الغوري ويصبح ابنها سلطانًا، وهي تسعى لتَلْقاه، وتبلغ مصر مع المنهزمين، ولا تتيح لها الحرب لقاءَ ابنِها على كثرة ما تحاول من ذلك، ولكنها تراه ذات يوم وفي آخر طريقها وفي آخر طريقه: جثةً معلقة على باب زويلة!

وهاتان الطريقان لا تخلصان لطومان وحده ولا لأمه وحدها، وإنما هما ممتلئتان بضروب مختلفة من الناس، وبألوان متباينة من الأحداث والخطوب، وبفنون متمايزة من الشخصيات: شخصيات الرجال الطامحين الطامعين، والضعفاء الأَذِلَّاء، والذين يترددون بين العزة والذلة، والذين يكيدون في سبيل المال، والذين يكيدون في سبيل الحب، والذين يكيدون في سبيل السلطان، والذين يعيشون للَذَّاتِهم، والذين يعيشون لعبادة الله والتخلُّص من أوزار الحياة الدنيا، وشخصيات النساء اللاتي يَكِدْنَ ليدخلن القصر، ثم يَكِدْنَ ليبلغن العرش، ثم تُخرِجُهنَّ الثورات من القصر فيَكِدْنَ للعودة إليه، وتُنزِلُهنَّ الفتن عن العرش، فيَمْكُرْنَ ليَرْقَيْنَ إليه مرة أخرى، كل هؤلاء وغير هؤلاء تكتظ بهم الطريقان.

والأشخاص في هذه القصة كثيرون، قد تفرقت بهم الطرق والتَوت بهم المذاهب، واختلفت بهم وعليهم الأهواء، وهم مع ذلك لا يصرفون القارئ عن قراءته ولا يردونه عن غايته، وإنما يدفعونه إلى هذه الغاية دفعًا، ليس منهم إلَّا من يثير في القارئ عاطفة حبٍّ أو بغض، أو رغبة في الاستطلاع، أو تَذَكُّرًا لشخصيات أخرى من شخصيات التاريخ، أو تفكُّرًا في بعض الأحداث والخطوب التي يشهدها هنا وهناك في حياة العصر الحديث.

قلت لك إنه كتاب رائع بأَدَقِّ معاني الكلمة وأوسعها، وأصدقها في وقت واحد.

وإذا كان الناقد مستشارًا للقُرَّاء، وإذا كان المستشار مؤتمنًا كما يُقَالُ، فإني أشير على القراء أنْ يقرءوا هذا الكتاب، فسيجدون فيه أدبًا رفيعًا وتاريخًا صحيحًا، وتحليلًا دقيقًا وأسلوبًا رصينًا، لولا هذه الإنَّات التي يُسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس، لا في هذا الكتاب وحده، بل في كل ما يكتب، وأكاد أُملِي: في كل ما يقول!


(*) نُشر هذا المقال للأستاذ العميد طه حسين في مجلة الكاتب المصري: أبريل سنة ١٩٤٧.

إرسال تعليق

أحدث أقدم