قراءة أولى في مشروع روايات مصرية للجيب


قراءة أولى في مشروع روايات مصرية للجيب (*)

الكاتب: أحمد سراج

 

عليَّ في البداية أن أقرر أمرًا مهمًّا ومحددًا، يدفعني إلى إقراره إثبات الحق لصاحبه رغم ما سيثيره ذلك من ردود فعل متباينة؛ فهو يهدم ما تعارف عليه الكثيرون. بإيجاز ودون مواربة: "إن حمدي مصطفى - رحمه  الله - هو صاحب الفضل في وجود كتب سماها البعض بمشروع القرن الثقافي، استطاعت أن تحقق مبيعات غير مسبوقة، واستطاعت تقديم عدد من الكُتَّاب أصبح معظمهم نجومًا، عبر خطة واضحة تكشف عن وجود ناشر محترف يدري معنى النشر الحقيقي، وسأعرض فيما يلي كل ما توفر لي من معلومات أدت بي إلى هذا الحكم.

السؤال الذي يشغل الناشر والكاتب كثيرًا: لماذا يوزع كتاب هذا التوزيع المذهل، فيما لا يستطيع كتاب آخر أن يبيع آحاد النسخ؟ لكن هناك سؤالًا أكثر أهمية يتجاهله الكثيرون دائمًا على الرغم من أنه من أسس النشر: ماذا ننشر.. ما يعجبنا أم ما يعجب القارئ؟.. إن النشر صناعة، تحتاج إلى دراسة السوق والعينة المستهدفة دراسة جيدة جدًّا؛ بما يمكِّن الناشر من تحديد موضوعاته بدقة، ليس هذا فحسب، بل تتحكم العينة المستهدفة في كل شيء بدءًا من لغة الكاتب وانتهاء بنوع الورق والأحبار.

وقد يسارع بعضنا بالاتهام الجاهز: سيتحول النشر إلى تجارة قاعدتها العرض والطلب، بما يعني أن الفن الرفيع لن يجد مَن يتعامل معه، فيما سيأخذ الفن الذي يخاطب غرائز القراء كل المساحة؟ وفي هذا الاتهام تعالٍ وعدم قدرة على فهم المُنتَج أصلاً؛ فالأصل هو القارئ، والناشر ليس وصيًّا، هذا من جهة، من جهة أخرى فإن دراسة العينة المستهدفة ستجعل الخريطة واضحة تمامًا وستحل عددًا كبيرًا من مشكلات القارئ الذي يريد كتابًا لكن لا يجده، والناشر الذي تكسد كتبه، ولأضرب مثلا واضحًا: يدرس طلاب كليات الآداب والتربية ودار العلوم والدراسات العربية والإسلامية بالجامعات المصرية في السنة الأولى مادة الأدب الجاهلي، ويطلب منهم الأساتذة اللجوء للمصادر ومنها: أخبار الشعراء لابن قتيبة؛ فماذا يحدث؟ يملأ الطلاب مكتبة الكلية التي لا تحتوي إلا على ثلاث نسخ على الأكثر؟ ماذا لو طبع ناشر طبعة شعبية من هذا الكتاب وغيره؟ ثم تعال إلى مثال أكثر وضوحًا.. لماذا تنفد كتب الذخائر الصادرة عن هيئة قصور الثقافة برغم أنها تطرح كتبًا نوعية؟

ويبدو أن ما قدمته المؤسسة العربية الحديثة نموذجيًّا لدراسة أسباب ما نسميه بالكتب الأكثر مبيعًا، فقد استطاعت عبر كتابات نبيل فاروق تقديم مئات العناوين التي وزعت مئات الآلاف من النسخ، خلال ثلاثين عامًا متتالية، وما تزال هذه الكتابات تسجل معدلات قياسية.. نتحدث عن  سلاسل: "رجل المستحيل" و "ملف المستقبل" و "زهور" و "أرزاق" الصادرة عن المؤسسة العربية الحديثة، التي صدرت فيما مؤسسات حكومية كالهلال وغيرها تقدم نوعية قريبة منها مثل: "الشياطين الثلاثة عشر" و "المغامرون الخمسة" إضافة إلى الكتب والمجلات البوليسية مثل: "أرسين لوبين" و "شرلوك هولمز" و "أجاثا كريستي".

كانت المنافسة شديدة إذن لكن قراءة المؤسسة كانت واعية جدًّا، فالمستهدفون وهم من سن اثني عشر عامًا حتى تسعة عشر عامًا تقريبًا يمثلون عددًا كبيرًا، ويتميزون بالشراهة القرائية، إلى جوار سمات المرحلة ومنها: الانفتاح على العالم، حب المغامرة والانطلاق، الميل إلى تحقيق المثل  العليا، سيطرة مفاهيم إيجابية على أفكارهم مثل حب الوطن، وانتصار الخير.

من هنا بدت التربة مثالية؛ فقامت المؤسسة التي تأسست في عام 1960م (بتجنيد) كُتَّاب عبر خطة محددة: "إنتاج سلسلة أعمال لا تشوبها شبهة الترجمة أو الاقتباس أو النقل عن أية قصص أجنبية"، ولنلحظ ما يلي: أبطال الكتب مصريون (وبهذا يتفوقون على الكتب المترجمة)، محترفون (وبهذا يتغلبون على المغامرات الخمسة وما شابهها)، وقد تم إطلاق هذه التجربة تحت عنوان "روايات مصرية للجيب" في عام 1984.. ويحكي نبيل فاروق ألمع كُتَّاب هذه التجربة كيف بدأت علاقته بالمؤسسة التي هجر مهنة الطب وتفرغ لأجل العمل فيها، وكيف كان وضوح خطتها عاملًا مؤثرًا في استمرارها ونجاحها منذ أُطلقت وحتى قراءة هذا المقال على الرغم من وفاة حمدي مصطفى ومن توقف نبيل فاروق عن كتابة بعض سلاسلها.

نأتي إلى السؤال: كيف نجحت هذه الفكرة هذا النجاح المدوي؛ فصار القراء ينتظرونها ويعرفون مواعيد صدورها في مصر وخارجها، وحصل أحد كُتَّابها نبيل فاروق على جائزة الدولة التشجيعية، وصار من ألمع كُتَّاب الخيال العلمي والجاسوسية؟.. نحن هنا أمام تضافر عدة عوامل؛ وضوح الخطة كما أسلفنا، وإبداع المؤلف وحرفيته واحترافه. أما عن إبداع المؤلف فنلمسه جليًا من شخصياته الأساسية التي لم يسبق لأحد في مجاله أن رسمها على هذا النحو المتفرد: أدهم صبري الذي يعد مثلًا أعلى لكل مصري في هذه السن؛ فهو قوي شديد الذكاء يجيد التنكر يتقن أكثر من لغة. أما عن حرفيته فتجدها مثلًا في قدرته على الحفاظ على القارئ مشدودًا إلى الرواية لا يستطيع تركها، عبر تقسيمها إلى مقاطع تنتهي بمحفز كخطر يحدق بالبطل أو اكتشاف يغير سير الأحداث. أما احتراف الكاتب فنراه من خلال التزامه بموعد النشر، وبتقدمه الفني في كل رواية، ويمكننا مقارنة الأعداد الأولى من رجل المستحيل مع العدد الخمسين مثلاً؛ لندرك هذا التقدم.

مما زاد ثراء النصوص وقدرتها على الحفاظ على قرائها وجذب قراء جدد، تطوير الكاتب لأدواته ومقومات إنتاجه، ويمكن التعرف على ذلك من خلال قراءة عدد "الأسطورة" الصادرة عن سلسلة ملف المستقبل وفيها نجد سعة إطلاع الكاتب في مجال الأساطير الإغريقية، والأهم كيفية تطويع حكايات الأساطير عند إيرادها في النص، ومراعاته أن القارئ أمام أمرين: مفردة لا يعرف معناها ولا خلفيتها، وعنصر روائي ينتظر منه أن يكون موائمًا لخلفيته، وتأتي المعالجة لتثبت براعة الكاتب، فقد وازن بين طريقتين: تقديم الشخصية عبر حوار ديناميكي، أو هامش أسفل الصفحة يفك بإيجاز شفرة المفردة؛ لغة واصطلاحًا؛ لذلك سهل أن يكون البيجازوس وميدوزا عناصر مشوقة برغم غربتها عن ثقافة القارئ.

وُفق الكاتب أيضًا في اختيار شخصياته، وفي رسمها حتى يكاد القارئ يراها، كما يُحسب له طريقة تناول شخصيات الأعداء أو البطل المضاد؛ فقد سادت صور نمطية عن الإسرائيلي في الأدب العربي منها الخوف وعدم القدرة على التصرف والإغراق في شرب الخمر، لكن نبيل فاروق قدم شخصيات حقيقية متوائمة مع الحقيقة؛ فسونيا جراهام ند قوي لأدهم صبري، بما تمتلكه من قدرات وخبرات، وقل نفس الشيء عن بقية الشخصيا.

إثارة القارئ وتحريك عواطفه دون ابتذال سمة رئيسة داخل نصوص نبيل فاروق؛ فالبطل المنتصر يقدم صورة وطنية مثالية، وحين يقع في ورطة أو أزمة يتصرف كما يليق بمواطن شريف لا يخدع ولا يتنازل ولا ينهار.. استخدم الكاتب تقنيات متعددة منها الفلاش باك؛ فيبدأ القصة من لحظة ذروة، ثمَّ يعود إلى ما قبلها بعد ذلك، كما استخدم طريقة الأجزاء المسلسلة بما يضمن له متابعة القارئ له، إضافة إلى إيقاعه ببطله في مآزق خطرة مثل دخول منى ـ مساعدة أدهم ـ في غيبوبة، وفقدان أدهم صبري الذاكرة في المكسيك، وزواجه من عدوته التقليدية سونيا جراهام.

من الأمور اللافتة في نصوص نبيل فاروق اهتمامه بجعل الشخصيات المساندة تسير على الأعراف دائمًا فهي تقدم خدمات قوية، كما تمثل عبئًا في كثير من الأحيان عليه؛ فنجد استهداف الأعداء في رجل المستحيل لمنى المعاونة الرئيسة، أو قدري خبير التزييف والتزوير، أو أحمد صبري الطبيب الشرعي البارع، كما نجده في ملف المستقبل  استهداف محمود الخبير الإلكتروني، ورمزي الطبيب النفسي.

اللغة المشهدية تبدو بطلاً حسم الأمر لنبيل فاروق في نصوصه، فبلغة موجزة واضحة معبرة يستطيع نقل حدث لك في شارع في شيكاغو، وفي مقطع تالٍ تجد وصفًا بصريًا لاجتماع في أحد مكاتب المخابرات.. إن المعرفة النوعية، وأعني بها هنا معرفة المصطلحات الخاصة بقضية ما، ومن ثمَّ تقديمها للقارئ بسلاسة ويسر وصدق، فمثلًا "البيت الآمن" وهو مصطلح خاص بالتجسس والعمل المخابراتي، وكيفية عمل القائمين عليه، وطريقة الوصول إليه، ومعرفة أنواع المهدئات وتأثيراتها، و "مصل الحقيقة" ودوره وخطره والمضاد الذي يتجرعه رجال المخابرات للتغلب عليه

ما سبق وغيره، استند على اهتمام الكاتب بالأسس الفنية للسرد، وإتقانه للغة العربية البسيطة، ولست أدري كيف يتم تجاهل أدب الخيال العلمي والجاسوسية في الدراسات النقدية برغم ما قدمه هذا الكاتب وغيره؟ ولمصلحة مَن يستمر هذا التجاهل؟ ولماذا لا نفكر على هذا النحو: أيهما أسبق للقارئ: رجل المستحيل أم هاري بوتر؟ أيهما أكثر جذبًا للقارئ والمشاهد: أدهم صبري أم أبطال مملكة الخواتم؟ أيهما أقرب لجمهورنا العربي: قصص البطولة والمغامرات في ملف المستقبل أم في قراصنة الكاريبي؟ 

أهيئ نفسي من زمن لقول هذا: "إن إهمالنا لمحاولات كُتابنا الرائعة، والمسارعة بنقدها والسخرية منها، فيما نعدو للتهليل لما يقدمه الآخرون باعتباره معجزة لا تكرر، هو جريمة لا تغتفر، تنعكس آثارها على الأجيال التي تتلونا، وأقل هذه الآثار تشوش المفاهيم والقيم".. لنفكر على هذا النحو: لماذا لا يتوقف تجاهل تجارب الأكثر مبيعًا؟ لماذا لا يلجأ إليها صُنَّاع الدراما التلفزيونية والأفلام؟ هل الدبلجة والترجمة والاقتباس أولى من إنتاج نصوص عربية مئة بالمئة؟.. لا أجد خيرًا من هذا المنبر لأوجِّه دعوتي للقراء وللكُتَّاب وللنقاد ولصُنَّاع الدراما والأفلام: "إن نجاح نبيل فاروق وأحمد مراد وغيرهما نجاح لنا جميعًا، وعلينا أن نضع ما يقدمونه في موضعه الصحيح؛ قراءة ونقدًا وتمثيلًا ومساعدة".

 لقد تحمل حمدي مصطفى وحده عبء إنتاج هذه السلاسل وأظنه ربح كثيرًا على كل المستويات، وما زلنا ننتظر الإصدار الجديد من لعبة مقتبسة عن فيلم أو عن قصة، وما زالت هوليود تنفق الملايين لإنتاج فيلم لجيمس بوند، وعلى الجانب الآخر هناك قارئ متلهف ومشاهد أكثر تلهفًا.. فقط تابعوا عدد النسخ المبيعة لروايات نبيل فاروق أو أحمد مراد، ولا يعني هذا أنهما يكتبان الأفضل؛ فالمسألة لا تحسب هكذا؟ والأفضلية ليست من معايير النقد باعتبارها حكم قيمة مشكوك في صحته ومنهجيته، فقط هناك معايير لنجاح الرسالة/ الكتابة؛ والتي منها ولاء الناس لها، والمبيعات مؤشر جيد لهذا.

العالم أرحب من أن نضيقه تبعًا لتصوراتنا وأفكارنا، وإن نجحنا في هذا فسنكتشف أننا صنعنا سجنًا خانقًا نتعارك فيه على سنتيمتر فاسد الهواء والروح، والأجدى – في رأيي – أن نوسع أفقنا وأن نساعد المجتهد والمبتكر، وتخيلوا الفائدة التي تعود على الجميع لو قابلنا كل جديد بما يستحق من اهتمام وعطف وامتنان.. تلك مهمتنا الأولى في هذا الكون.

 

(*) نُشر هذا المقال لأول مرة في مجلة الثقافة الجديدة التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في شهر يونيو عام 2014، ونُعيد نشره هنا بإذن خاص من الكاتب.

 

  

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم