بين الملابس والمهن السيئة.. سرديات موازية للتاريخ غير المروي



بين الملابس والمهن السيئة.. سرديات موازية للتاريخ غير المروي

الكاتب: محمود راضي

 

ممتعة هي الكتب التاريخية التي تنبش في الطبقات المطمورة من التاريخ غير المروي وغير الرسمي؛ تاريخ البشر العاديين وتفاصيل حيواتهم اليومية، ومساعيهم الدائمة للعيش رغم كل الظروف العصيبة التي تمر بهم من فقر وحروب وغزوات وأمراض وأوبئة. واليوم نقدم كتابين من هذا النوع؛ الكتاب الأول بعنوان: أسوأ المهن في التاريخ، للكاتب البريطاني والممثل الكوميدي توني روبنسون، والذي صدر بترجمة الدكتور عبد الله جرادات عن مشروع كلمة بأبو ظبي.

وكتاب أسوأ المهن في التاريخ سرد لقصة ألفي عام من العمالة البائسة، ومحاولة لكشف النقاب عن بؤس فئة من البشر عانت من النسيان والتجاهل من قِبل التاريخ وكُتَّابه، الذين سلطوا أضواءهم على أخبار الملوك والفرسان دون غيرهم من البشر. يتناول الكتاب أسوأ المهن التي شهدتها بريطانيا خلال ألفي عام؛ بداية من فترة الحكم الروماني لبريطانيا، مرورًا بالعصور الوسطى حتى العصر الفيكتوري. وقد عمل روبنسون على تخصيص كل فترة زمنية بمهنها الأسوأ الخاصة بها. وقد أشار أن اختياراته كانت شخصية محضة، وذلك لعدم وجود مقاييس موضوعية لقياس بؤس الإنسان. ومن أسوأ المهن التي ذكرها في الكتاب: مهنة عامل مناجم الذهب الذي كان يقضي شهورًا في مناجم لا يرى فيها نور الشمس، وجامع بيض الغلموت، الذي كان يتسلق وهو مربوط بحبل فوق الجروف الشاهقة الخطرة لجمع بيوض طائر الغلموت، وآكل الضفادع وملتقط بيض القمل، ورجل النفايات، ورجل الخرقة ونابش العظام، ومنقب الصرف الصحى، وجامع روث الكلاب.

الجميل في هذا الكتاب أن توني روبنسون لم يكتف بالتنقيب عن أسوأ المهن التي عرفها تاريخ بلاده، ولا يكتفي فحسب بإشباع شغفه بالتاريخ الذي وضع فيه أكثر من كتاب حتى أنه وضع كتابًا عن التاريخ المصري القديم، بل حاول كذلك الاقتراب من نفس الظروف التي عاشها أصحاب هذه المهن، ولذلك جاء الكتاب سجلًا تاريخيًا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، نستطيع من خلاله تلمس التواريخ المحددة لظهور أغلب المهن. وبجانب هذا الكتاب فقد تحدث روبنسون عن هذه المهن مرة أخرى ضمن سلسلة تليفزيونية من جزئين، ويعد الجزء اﻷول منها هو قوام هذا الكتاب الممتع.

أسوأ المهن في التاريخ: سرد لقصة ألفي عام من العمالة البائسة

تأليف: توني روبنسون، ترجمة: د. عبد الله جرادات، مراجعة: د. أحمد خريس

هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة (مشروع كلمة)

 

 

 ***

 

الكتاب الثاني الذي سنعرضه والذي ينتمي لنفس نوعية الكتب التاريخية التي تُسلط الضوء على التاريخ غير الرسمي؛ هو كتاب المكشوف والمحجوب: من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع، للكاتبة مينيكه شيبر ـ الصادر عن دار صفصافة، بترجمة: عبد الرحيم يوسف ـ والذي قد يظنه القارئ من النظرة الأولى مجرد كتاب أكاديمي جاف عن التاريخ الطويل للبشر مع فكرة الملابس، أو قد يظنه حتى يروي هذا التاريخ من منظور نسوي بحت أحادي البعد، يتناول تاريخ تأثير السلطة الذكورية على ملبس المرأة على مر التاريخ، وهو شيء - أي السلطة الذكورية - لا يمكن إنكاره بالتأكيد، رغم التحفظات الكثيرة على النهج النسوي في التحليل، خاصة حين نراقب المعارك المستعرة حتى اﻵن في كل مكان حول ما يجب ولا ما يجب أن ترتديه المرأة، خاصة في البلدان المحافظة.

 

المفاجأة الكبرى التي ستواجه القارئ أنه ليس بكتاب أكاديمي على اﻹطلاق، وليس بكتاب متعصب للخطاب النسوي، بل على العكس، فالقارئ غير المتخصص سيجد فيه حكاية شيقة جدًّا عمرها بعمر اﻷرض منذ ورود فكرة الملبس للمرة اﻷولى على بال الإنسان بعد أن عاش عاريًا لقرون طويلة، وصولًا إلى شبكة القوانين المعقدة التي تختلف من بلد ﻵخر حول الملبس الملائم للرجل والمرأة على حد سواء، والعوامل المتعددة والمركبة والمتشابكة التي ساهمت في خلق هذه الفروقات، معتمدة في ذلك على دراساتها اﻷكاديمية ورحلاتها حول العالم وبحوثها حول الثقافات الشعبية، مما جعل وجهة نظرها في الكتاب فائقة الشمولية واﻹحاطة.

 

كما أن الكاتبة ذكية بما فيه الكفاية لكي تعرف الفارق عند طرح موضوعها بين الحديث عن جنس الرجال وبين الثقافة الذكورية، وهو الفارق الذي يتماهى ويتميع تمامًا في أغلب أدبيات الفكر النسوي، لكنه هنا واضح بلا لبس، وهو ما يبعد عن الكتاب تمامًا تهمة التحيز النسوي، فالكتاب يتناول رحلة الرجل والمرأة معًا في العلاقة مع الملابس، وإن كان التركيز على المرأة في الكتاب هو الأغلب - وهو أمر مفهوم - بسبب معاناة المرأة على مر العصور من قواعد وقوانين متعسفة تضع حدودًا لما يجب أن ترتديه.


المكشوف والمحجوب: من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع

تأليف:مينيكه شيبر، ترجمة: عبد الرحيم يوسف

دار صفصافة للنشر

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم