قراءة في مسرحية ” تاجر البندقية “ لويليام شكسبير




قراءة في مسرحية تاجر البندقية “ لويليام شكسبير

الكاتب: خليل مطران (*)

 

تدور مسرحية «تاجر البندقية» ـ إحدى أشهر مسرحيات الكاتب الإنجليزي: «ويليام شكسبير» ـ حول قصة  الفتاة الجميلة «بورشيا» ذات المال والذكاء، التي أراد لها أبوها قبل أن يموت أن تتزوج عن طريق الاقتراع على صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والثاني فضي، والثالث رصاصي.. فمَن يختار من الخُطَّاب الصندوق الذي فيه رسمها تصبح له زوجة.. ولكنها كانت تميل إلى شاب رقيق الحال من بني جنسها.. وكما يحدث عادة في أمثال هذه الحكايات؛ فقد أُلهم حبيب الفتاة الصواب، ووقع اختيار الشاب «بسانيو» على الصندوق الرصاصي الرابح.

ولكن بسانيو فقير لا يقوى على منافسة الخُطاب الأثرياء، فلجأ إلى صديقه «أنطونيو» ـ تاجر البندقية ـ ليقرضه المال ليتقدم به إلى خطبة الفتاة.. ولكن أنطونيو ـ في غمرة من الضيق المالي ـ  دفعته المروءة إلى أن يضمن صديقه عند اليهودي «شيلوك».. الذي أقرضه المال على شرط أن يأخذ رطل لحم من جسمه إذا فات موعد وفاء الدين ولم يستطع الوفاء به.. وحينما فات أجل الدين وعجز أنطونيو عن الوفاء به في وقته ـ بعدما أُشيع أن سفن تجارته قد هلكت في عرض البحر ـ حق تنفيذ الشرط القاضي عليه باقتطاع رطل من لحم جسده.. فهمَّت بورشيا لتنقذه، بعد أن رفض شيلوك أن تدفع له دينه أضعافًا مضاعفة.

تنكرت بورشيا في زي محام شاب لتدافع عن أنطونيو أمام دوق البندقية، وتنقذ حياته من يد اليهودي.. بتحويل القانون ضده  بإن اشترطت عليه أن يقطع اللحم من جسم أنطونيو بلا قطرة من دم، وإلا قضى عليه قانون البندقية بمصادرة أمواله وأملاكه، وهنا اضطر شيلوك ـ مكرهًا ـ إلى أن يرضى بأن يُرد إليه أصل قرضه من غير تنفيذ لشرط اللحم!.. ولكنه في النهاية خسر قرضه، وخسر ماله كله الذي ذهب إلى ابنته «جسيكا» وزوجها «لورنزو».. فضاعت أمواله كلها التي أنفق الساعات في جمعها.. وعاد من صفقة القرض التي كان يحسبها رابحة بأفدح خسران.

وإذا كان من المسلم به ـ تبعًا للعناصر الرئيسية التي وضعها أهل الخبرة للمسرح ـ أن خاتمة المأساة تنتهي بصراع البطل ضد قوات معادية، وينتهي الصراع بهزيمة البطل، على حين ينتهي في الملهاة بانتصاره؛ فإن مسرحية تاجر البندقية تُعد ملهاة ينتصر فيها أنطونيو علي كل الصعوبات التي اعترضت سبيله.. فعلى حين تتأزم الأمور أمام أنطونيو ويعجز عن الوفاء بدين شيلوك في موعده، وتأتيه أخبار الخسارة لعروضه وأمواله وسفنه في الساعة التي يفرح فيها بسانيو بزواجه من بورشيا ـ على حين يحدث ذلك ـ إذا بالمحاكمة تبدأ، وإذا بالفتاة الثرية العاقلة بورشيا تحول القانون في براعة وحذق إلى صدر شيلوك.. فتختلط المأساة الفرعية العارضة بالملهاة الأصيلة، وينتهي ذلك كله بالنهاية السعيدة على نغمات الموسيقى، وفي سفور القمر المطل المضيء على قصر بورشيا بمدينة «بلمونت».

ولقد نحى شكسبير وحدة الزمان والمكان جانبًا في هذه المسرحية، وجرى على وحدة أكمل وأتم.. هي وحدة الحياة.. وبذلك سار على طريقة ابتداعية خالف بها المذهب الاتباعي القديم «الكلاسيكي».

وتستغرق هذه المسرحية في مقياس الزمان ربع عام تدور فيه الأحداث مدارها، ولكنها تبدو لنا حين نسمعها أو نقرؤها أنها تدور في ساعات قصار، على حين تنتقل المشاهد من مدينة البندقية إلى مدينة بلمونت طردًا وعكسًا.. وهنا يحق لنا أن نقول مع القائلين: إن الوقت عند شكسبير مستقل كل الاستقلال، أو غني كل الغنى عن الساعات والتقاويم.

وليس مبالغة في القول أن نقول إن مسرحية تاجر البندقية غنية غنى وافرًا في شخصياتها.. وهو غنى ليس في الكم وحده، ولكنه يضيف إلى الكيف ما يجعل هذه الرائعة واحدة من أجمل روائع شكسبير.. ولقد قسم الشاعر الإنساني أشخاص روايته إلى مجموعات متشابهة أو غير متشابهة، ولكنها محكمة الاختيار إلى حد يجعل كل واحدة منها قائمة واضحة المعالم، ثابتة في المكان الذي اختاره لها المؤلف، بحيث لا يختلف وضع مع وضع، ولا يتنافر شيء مع شيء.. فهناك مجموعة يتوسط عقدها تاجر البندقية ـ أنطونيو ـ وهناك مجموعة يتوسطها شيلوك، ومجموعة تتوسطها الفتاة الثرية العاقلة الحصيفة بورشيا. كما لا يجب أن نغفل الإشارة إلى جسيكا بنت شيلوك وهي التي شغفها الفتى المسيحي لورنزو حبًّا، فهربت معه بما حملته من أموال أبيها البخيل وجواهره.. وهما شخصان ذوا دورين عارضين في الرواية، إلا أنهما يكبران شيئًا في خلال المسرحية حتى يبدوا من أهم عناصرها.

ولقد بلغ من خطر الدور الذي قام به شيلوك أن المسرحية كادت تسمى باسمه بدلًا من اسم أنطونيو تاجر البندقية. فقد وجد في أحد السجلات القديمة “Stationers Registers” تعريف بهذه المسرحية هكذا: «هذا كتاب تاجر البندقية، أو كما يسمى باسم آخر: يهودي البندقية.» ولقد يدلنا هذا النقش الوثيق على أن شكسبير كان في شك من أن يسمي مسرحيته بإحدى التسميتين نسبة إلى أنطونيو أو شيلوك. وأيًّا ما كان الأمر فإن شيلوك هو «شخصية» هذه المسرحية، وما عداه من الشخصيات فتبع له. ولكن أنطونيو من ناحية الدراما هو شخصية هذه الرواية، فلولاه ما كان لشيلوك ظهور.

وقد نُسجت قصة تاجر البندقية من خيوط متنوعة قديمة قدم الطبيعة البشرية، حتى ليؤكد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن هيكل الرواية كله ليس لشكسبير فيه إلا فضل الحبكة الفنية.. فإن حكاية الاقتراع على الصناديق، وحكاية اقتطاع رطل من اللحم البشري، مما يرتد إلى أصول تاريخية قديمة من المحتمل أن تكون شرقية.. على أن حكاية الصناديق ـ كما جاءت في مسرحية تاجر البندقية ـ موجودة في مجموعة لاتينية من القصص تسمى: “Gesta Romanorum” جمعت في سنة ١٣٠٠. وقد ترجمت إلى الإنجليزية وطبعت بوساطة “Wynkiv de Worde”، وكانت شائعة بين الإنجليز في عصر أليصابات إلى حد أنها طبعت ست مرات بين سني ١٥٧٧ و١٦٠١، أي في شباب الشاعر شكسبير.

أما حكاية اقتطاع رطل من لحم الإنسان فهي موجودة في الأساطير الآرية وفي الأدب الشرقي جملة والمصري القديم خاصة.. وقد ظهرت في الأدب الإنجليزي في قصيدة “Cursor Mundi” سنة ١٣٢٠، وهي قصة دينية شرط فيها اقتطاع بضعة من اللحم من غير أن تراق قطرة من الدم.. ولعل مرد هذا الجزاء القاسي إلى القانون الروماني العنيف الذي يعطي الدائن حق اقتطاع فلذة من لحم المدين.. ولقد ظهرت قبل شكسبير قصص لا بأس بعددها تروى فيها حكاية الرطل من اللحم البشري كالقصة التي كتبها بالفرنسية «ألكسندر سلفاين» وترجمها إلى الإنجليزية “L. P. London” سنة ١٥٩٦.. ولعل أقرب هذه الحكايات شبهًا بحكاية شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية هي حكاية “Pecorone” التي أوردها “Giovanni Fiorention” في مجموعته القصصية سنة ١٣٧٨ ـ أي بعد وفاة الكاتب الإيطالي الشهير «بوكاسيو» بثلاث سنوات.

أما حكاية هرب جسيكا بنت شيلوك بعد أن سرقت بضعة من مال أبيها وجواهره فيمكن أن ترتد إلى أصل إيطالي في القرن الرابع عشر، وذلك في رواية «نوفلينو» لـ«سالرنو»، فهي تحدثنا عن ابنة ثري بخيل من أهل «نابولي»، سرقت جواهر أبيها واتخذت سبيلها في الأرض هربًا مع عاشقها.. على أنها بعد ذلك حكاية شائعة في ممالك الأرض جميعًا.

على أن الفكرة الرئيسية في مسرحية تاجر البندقية يقال إنها مأخوذة من «ملهاة البندقية» التي يزعم “Fleay” أنها الأثر الأدبي الضائع للكاتب Dekker والتي كان اسمها «يهودي البندقية».. ومهما يكن من أمر مصادر الحكايات التي اشتملت عليها مسرحية شكسبير، فإن شاعر الإنسانية الذي لا يدانى قد خلع عليها من عبقريته ومن روحه ومن سحر لغته ما جعلها رائعة عالمية فوق مناط الحكايات والأقاصيص.

 

(*) النص مُقتطع من الدراسة التي استهل بها الشاعر "خليل مطران" ترجمته لمسرحية (تاجر البندقية)، للكاتب الإنجليزي: "ويليام شكسبير"، بتصرف من: محمد خيري الخلَّال.

 



إرسال تعليق

أحدث أقدم