هل يزدهر الأدب وسط الفقر؟


هل يزدهر الأدب وسط الفقر؟ (*)
الكاتب: رجاء النقاش


تتأثر الظواهر الأدبية بالظروف الاجتماعية تأثرًا واضحًا ملموسًا.. وهذا التأثر ليس مقصورًا على اتجاه واحد وإنما هو عام وفي اتجاهات مختلفة.. فالظروف الاجتماعية تؤثر في موضوعات الأدب، فتعرض مشاكل العصر وتبعد غيرها من المشاكل، كما تؤثر الظروف الاجتماعية أيضًا في ازدهار الأدب.. فهناك ظروف اجتماعية معينة تساعد على هذا الازدهار وهناك ظروف أخرى تقلل منه وتفسده، وهكذا، فإن الظروف الاجتماعية تؤثر في موضوع الأدب وفي نوعه وقيمته واتجاهه.

ولم يحدث في تاريخ العالم أن ازدهرت حركة أدبية وسط ظروف من الفقر والقلق الاجتماعي الرهيب.. وهناك مرحلة شائعة يُضرب بها المثل في هذا المجال هي مرحلة الأدب الروسي قبل الثورة الاشتراكية.. إن البعض يرى أن الأدب الروسي في تلك الفترة قد خلق عددًا من عمالقة الأدب العالمي بالرغم من أن المجتمع كان متخلفًا فقيرًا خاضعًا لنظم اجتماعية بالية.. والواقع أن المراجعة المتأنية لتاريخ الأدب الروسي تكشف لنا عن أن الظروف الاجتماعية التي كان يعيش فيها أدباء تلك الفترة كانت تختلف كثيرًا عن الظروف الاجتماعية التي كان يعيش فيها الشعب بمختلف طبقاته؛ فلقد كان معظم أدباء تلك الفترة ـ باستثناء جوركي ـ من أبناء الطبقة الأرستقراطية أو الطبقة المتوسطة.

لقد كانوا جميعًا يملكون حدًا مناسب من الاستقرار والظروف الملائمة للإنتاج الأدبي.. وهذا هو الذي يحدث دائمًا بالنسبة لكُتَّاب الأدب.. فلابد أن يحصل الأديب على حد مناسب من الاستقرار المادي في حياته حتى يتمكن من الإنتاج الأدبي السليم، ولا بد من ناحية أخرى أن توجد فئة من القراء تملك قدرًا من الفراغ والرخاء مهما كانت ضآلته حتى تستطيع أن تهتم بالأدب والنشاط العقلي، اهتمامًا معزولًا بعض الانعزال عن شؤون حياتهم الأخرى المباشرة.. لقد كان ازدهار الأدب دائمًا مرهونًا بحد معين من الاستقرار يحصل عليه الكاتب وتحصل عليه الجماهير القارئة من أي نوع كانت.

ولم تخل حياتنا نفسها من الخضوع لهذا القانون الحضاري فعندما استقر المجتمع المصري استقرارًا نسبيًا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهرت الطبقة الوسطى ونمت في الحياة الاجتماعية ، ونمت معها المدرسة والجامعة والصحف والإذاعة، ازدهر الأدب عندنا ازدهارًا ملموسًا، وظهر جيلان عظيمان من الأدباء ملآ الحياة الفكرية بإنتاج خصيب ودفعا المجتمع دفعة كبرى إلى الأمام، كان الجيل الأول هو جيل: العقاد وطه حسين والمازني والحكيم وهيكل وتيمور.. وكان الجيل الثاني هو جيل: مندور ولويس عوض وزكي نجيب محمود، وغيرهم من أساتذة الجامعة وكُتَّاب الصحف.. لقد ظهر هؤلاء جميعًا عندما كان المجتمع المصري يعيش في حالة استقرار نسبي استغرقت ما يزيد عن عشرين عامًا، لم تكن هناك ثورات اجتماعية شاملة، ولم يكن هناك ذلك التوتر العام.

ولقد تأثرت حياتنا الفكرية كلها بنوع من التوتر الاجتماعي، فخضع الكاتب لتأثيره، وخضع القارئ لتأثيره، وأصبحت كتابة الأدب الخالص مشكلة صعبة ربما لا يستطيع أن يتوفر لها كاتب، وأصبحت قراءة الأدب الخالص هواية لا تميل إليها معظم الجماهير القارئة المشغولة بتتبع المشكلة الأولى في حياتها وحياة الأجيال التالية.. مشكلة تأمين البقاء أو تأمين الوجود.
إنك لا تستطيع أن تفكر وأنت جائع.. لا تستطيع أن تفكر وأنت مريض ومهدد بالموت.. نحن نعيش في مجتمع يوشك أن ينهار ما لم تتجدد وسائل الحياة فيه.. ما لم تتجدد منابع الحياة فيه.. ولا يمكن أن يزدهر الأدب في مجتمع يخوض معركة من هذا النوع.. فعلى كاهل الإنسان في بلادنا أعباء رهيبة وعاجلة.. لا بد أن تقل وأن يتغير نوعها بعض الشيء.. فلا تصبح أعباء يومية مباشرة تقتل فيه روح التأمل والملاحظة والإبداع وتذوق الحياة.

إن الإنسان في مجتمعنا يحتاج إلى الاطمئنان والاستقرار، وإشاعة الرخاء النسبي في حياته، حتى يتمكن من ممارسة نشاطه الفكري والانفعالي ممارسة ناضجة، وحتى يوجد ذلك القارئ الذي يملك من الفراغ ما يمكنه من قراءة الأدب كوسيلة من وسائل الإدراك الوجداني للحياة وتذوقها بعمق وفهم، وحتى يوجد ذلك الكاتب القادر على التفرغ لإنتاج عميق يكتشف جديدًا في النفس البشرية وفي الطبيعة والعلاقات الانسانية.

إن مطالب الإنسان الرئيسية تتعثر في ظروف قاهرة قاسية لا بد من القضاء عليها أولًا، حتى يتاح لهذا الإنسان الحصول على حد أدنى مستقر من مقومات الحياة.. وكثير من كُتَّابنا اليوم ليسوا معزولين عن مشاكل الإنسان في بلادهم، كلا بل لقد وقعوا هم أنفسهم في هذه المشاكل.. أنهم يواجهون أيضًا ـ كأفراد ـ أزمة المجتمع في جانبها الاقتصادي؛ فالمجتمع المتخلخل قد وضعهم أيضًا فيها.. فلا بد إذن أن يحصل المجتمع على لون من الاستقرار، لتزدهر بالتالي طاقات الإنسان وتكون أكثر قابلية للإبداع والخلق.


(*) النص مُقتطع من مقال الأستاذ رجاء النقاش (أزمة النقد الأدبي)، المنشور في كتابه (في أزمة الثقافة المصرية) عن دار الآداب ببيروت عام 1958، بتصرف من: محمد خيري الخلَّال




إرسال تعليق

أحدث أقدم