التأريخ الدرامي للثورة الفرنسية في رواية (قصة مدينتين)




التأريخ الدرامي للثورة الفرنسية في رواية (قصة مدينتين) (*)

الكاتب: حلمي مراد

 

عندما كتب تشارلز ديكنز رواية (قصة مدينتين) كي تُنشر تباعًا في إحدى مجلات لندن، في الفترة بين 20 أبريل و26 نوفمبر سنة 1859، كان قد انقضى على نشوب الثورة الفرنسية قرابة سبعين عامًا، دخلت خلالها الثورة المذكورة في التاريخ، وانفسحت الفرصة أمام الباحثين كي يمحصوا أحداثها تمحيصًا بدقة المؤرخ المحقق؛ فيجردوا تاريخها من شوائب الحشو والإضافة والتهويل، ويتركون للأجيال التالية مرجعًا موثوقًا به لأعظم وأعنف ثورة عرفتها البشرية.

وقد يدور بخاطرك لأول وهلة أن قصة مدينتين هي قبل كل شيء رواية من نسج خيال مؤلفها، شتان بينها وبين التاريخ والواقع.. لكن المقطوع به في هذا الصدد أنها رواية تاريخية بكل ما يحمل هذا الوصف من معنى؛ أي أن جميع حوادثها مبنية على وقائع جرت على مسرح الثورة بالفعل قبل أن يؤلف ديكنز من وحيها رواية.. فهو لم تكد تواتيه فكرتها ويشرع في كتابتها، حتى ارتدى عباءة المؤرخ النزيه الذي يُقدِّر مسئولية كل كلمة يتركها للأجيال التالية من قرائه، فلم يسمح لقلمه بأن ينساق وراء إغراء خيال الروائي، أو وراء ميل خاص يستهدف إرضاء عواطف هذا الفريق أو ذاك من أنصار الثورة أو خصومها.. وإنما سيطر على قلمه سيطرة مثالية فريدة، فخلت الرواية من أي تحيز في الحكم أو ميل إلى فريق دون فريق.. بل إن ديكنز كان متزنًا إلى أبعد الحدود، فنصب في يده ميزان الحقائق الثابتة التي قام عليها أكثر من دليل.. أو على حد تعبيره في تقديمه للقصة: "لقد حققت ما قاساه أشخاص القصة وما فعلوه، كما لو كنت قد قاسيته كله بنفسي وفعلته".

وجريًا على هذا المبدأ الذي رسمه ديكنز لنفسه في كتابته للرواية، لم يحاول أن يغِضّ أو يغالي في وصفه لتطرف الثوار، فلم يفقد عهد الإرهاب على صفحات الرواية شيئًا من ألوانه الصارخة الدامية التي سجلها التاريخ.. ولا فقدت مذابح سبتمبر، وسجون الثورة، وعربات الموت، والمقصلة، ذرة من رهبتها ودلالاتها المروعة.. وهكذا رأينا غضب الثوار حين يفتك بحائكة ثياب بريئة، عقابًا لها على تهمة وهمية.. وعشنا مع الجماهير الصاخبة وقد أطلقت لعنفها العنان فعلقت فوق حرابها رأسًا مبتورة لفتاة!

لكن ديكنز وهو يعالج ـ بأمانة ـ تطرف الثوار، لا يسمح لنفسه بأن ينسى لحظة طغيان النبلاء القدامى، وتلك الحقبة الطويلة من المظالم والاضطهادات التي سبقت الثورة، وكانت السبب المباشر الذي مهد لها ثم أطلقها من عقالها.. ومن ثم رأينا الرواية تجمع في مشاهدها المتناوبة بين تطرف هؤلاء، وتطرف أولئك ـ فتتلاعب بعواطفنا من النقيض إلى النقيض! ـ دون أن تخل بموازين التقدير السليم والحياد الشريف، العسير، اللذين بقيا بمنجاة من كل شائبة يشهدان بعظمة ديكنز الخالدة.

يعتبر النقاد أن قصة مدينتين تختلف عن كل روايات ديكنز الأخرى، ويبنون حكمهم على عاملين:

الأول: نسيج القصة ومسرح أحداثها.. إذ أنه اختار حقبة من أحرج الحقب في تاريخ بلاده، ثم اختار نفس الحقبة في تاريخ فرنسا، وكانت أكثر حرجًا، وأكثر تغيرًا، نظرًا لقيام الثورة الفرنسية.. وهكذا خرج بمجال خياله وكتابته عن نطاق بلاده، دون أن يشعر القارئ بأنه أجنبي عن البلاد الأخرى التي اختارها.. كذلك يلاحظ أنه في سرد الوقائع وربطها بعضها ببعض، اتبع أسلوبًا متطورًا، يميز هذه الرواية عن رواياته الأخرى، وإن لم يقلل هذا من قيمة وقدر تلك الروايات.

الثاني: الأسلوب الذي اتبعه في تكوين وإبراز شخصيات الرواية.. ذلك أنه حرص على أن يدمج الشخصيات في الأحداث ببراعة وإبداع، لتبرز الشخصيات وتتطور بشكل أقرب إلى الشكل الواقعي الطبيعي.. وبمعنى آخر تخيل ديكنز موضوع القصة، وحرص على أن يصهر عناصر الشخصيات في بوتقة الأحداث؛ بحيث تتشكل الشخصيات مع الأحداث وفي جوها.. أي أنها هي التي تظهر ميزات كل شخصية، وهي التي تعبر عن الشخصيات وتشرحها، أكثر مما تعبر هذه الشخصيات عن نفسها في الحوار. مع تركيزه بقدر أكبر على شخصيات (الصف الثاني) بحيث لا يملك القارئ إلا أن يخصهم بنصيب من إعجابه يفوق نصيب بطل القصة أو بطلتها اللذين يحتلان المكان الأول من مسرح الأحداث، ولذلك ظلت شخصيات الرواية غنية، دسمة، تُشوق القراء، وتتيح للدارسين مادة للتفكير والتعمق والتحليل.

وقد اعتمد ديكنز ـ إلى حد كبير ـ على المصادفة، في سرد حوادث القصة.. والتي قد يراها فريق من النقاد المعاصرين معيبة، ولكنها ـ في الفترة التي كتب فيها ديكنز الرواية ـ لم تكن كذلك، فضلًا عن أن طريقة علاجه للأحداث والشخصيات، استطاعت أن تحجب هذا العيب.. إذ يجب أن نراعي تغير المفاهيم والمقاييس منذ كتبت الرواية حتى اليوم.

وبالرغم من الإطار التاريخي، نجد أن قصة مدينتين تتمشى مع بقية روايات ديكنز ـ مثل أوراق بيكويك وأوليفر تويست وديفيد كوبر فيلد ـ في إبراز الرسالة التي التزامها ديكنز في كتاباته الروائية، وهي: كشف النقاب عن آلام البشر، وعناء الإنسان، وظلم القوي للضعيف.

عني ديكنز في قصة مدينتين بوصف الأوضاع في إنجلترا وفرنسا ـ في العهد الذي قامت فيه الثورة الفرنسية.. وهذا نلمسه من اختياره لعنوان الرواية: (قصة مدينتين).. فهو يعرض قصة لندن وباريس في فترة من أحرج فترات تاريخهما، ليقارن بين أحوالهما، وعاداتهما، ومعاييرهما السياسية والأخلاقية، وتجاربهما.. ولعله كان يهدف إلى أن يستمد من الأحداث التي اكتنفت أحداهما ـ باريس ـ نذرًا لتنبيه الثانية.. وقد لا نملك أن نجزم بأن هذا كان هدفه الرئيسي، ولكنا نستطيع أن نلمسه خلال الرواية كلها.

ولقد استمد أحداث الثورة من كتاب توماس كارليل (الثورة الفرنسية)، ولكن اهتمامه كان منصبًا على معاناة المظلوم، وجور القوي، أكثر منه على رسم صورة تاريخية، ومن ثم نراه لا يعني من أحداث التاريخ إلا بالقدر اللازم لجو قصته، ولا يحفل بملء الثغرات في رواية الأحداث التاريخية، وإنما يتتبع أحداث الثورة الفرنسية بالقدر الذي يبين تأثيرها على شخصيات القصة, وبمعنى آخر، إن ديكنز لم ينزلق إلى ما ينزلق إليه كثير من كُتَّاب الرواية التاريخية عادة، فيسرد الأحداث بطريقة التسلسل التاريخي ـ الذي يعتمد على التتابع الزمني، وعلى الأشخاص ـ وإنما اختار من الأحداث ما يكفي لسير وقائع روايته فقط، وحرص على الإيهام الذي يفرق بين سرد المؤرخ وسرد القصصي.. ولا يعيب هذا ديكنز، فإن غايته الأولى هي أن يبث في القارئ الكراهية للظلم والطغيان.. وهي كراهية رسخت في ذهنه منذ قاسى العناء في صغره، نتيجة للظلم.

قصة مدينتين من الروايات التي تتطلب من القارئ أن يطالعها مرتين: مرة بسرعة، في كثير من المتعة والاهتمام اللذين يداخلان المرء وهو يشاهد قطًا يداعب فأرًا قبل أن يلتهمه.. فهو ينبهر بالأحداث المثيرة، ويتعجلها لاستنباط حلول للمواقف، ويشعر بالقلق، والأسى، والفرح، تبعًا لمواقف الشخصيات وانفعالاتها.. أما المرة الثانية، فتتحول فيها الشخصيات الخيالية إلى أشخاص واقعيين، ويمثلون حياة المدينتين، أو حياة إنجلترا وفرنسا في تلك الحقبة من الزمن: عهد الملك جورج الثالث في الأولى، والملك لويس السادس عشر في الثانية، ثم عهد الثورة.

ذلك لأن القصة تمثل ـ في روحها وتفاصيلها ـ كل نواحي الحياة في الدولتين، في تلك الحقبة.. فهي ليست مجرد وسيلة لتسلية القارئ وملء فراغه، وإنما هي ـ إلى جانب هذا ـ مصدر للمعرفة.. المعرفة التي يهيئ ديكنز للقارئ بعض موادها؛ باطلاعه على أحوال السجون والمحاكم والقوانين والأوضاع في تلك الحقبة من الزمن.. بل المعرفة التي ترشده أو تحفزه إلى مواصلة الاطلاع، في مصادر أخرى.. فما أورده ديكنز عن الثورة الفرنسية ـ مثلًا ـ والطريقة التي انتهجها في ربط حوادثها بحياة شخصيات الرواية، تغري القارئ بمزيد من الاطلاع على ما كتب عن هذه الثورة.

ذلك لأن الروائي الذي يستمد روايته من التاريخ، يُكلف نفسه عناء الدراسة والبحث، مهما يكن موضوعه خياليًا.. وهو لا يفعل ذلك عبثًا، وإنما هو يسعى لكي يكتب لإنتاجه الخلود، ويجعل الرواية وسيلة لزيادة معلومات القارئ ومفهوماته، وليست مجرد أداة لقتل الفراغ.. وأعتقد أن ديكنز قد أفلح في هذا كله، وحقق لاسمه الخلود!

 

(*) نص المقال مُقتطع من الدراسة التحليلية التي قدمها الأستاذ حلمي مراد في نهاية ترجمته للنسخة المختصرة من رواية قصة مدينتين، ضمن سلسلة مطبوعات كتابي، بتصرف من: محمد خيري الخلَّال.

 



إرسال تعليق

أحدث أقدم