دروس ابن المقفع الأخلاقية




دروس ابن المقفع الأخلاقية (*)

إعداد: محمد خيري الخلَّال

 

ـ لا تعتَذِرَنّ إلا إلى مَن يُحب أن يجِدَ لك عُذرَا، ولا تستعِينَنّ إلا بمن يحب أن يُظفرك بحاجتِكَ، ولا تُحدّثَنَّ إلا مَن يرى حديثك مَغنمًا، ما لم يغلِبك اضطرار.

ـ إن سمعت من صاحبك كلامًا، أو رأيت منه رأيًا يُعجبُك، فلا تنتحِلهُ تزيُّنًا به عند الناس. واكتفِ من التزين بأن تَجتنِيَ الصواب إذا سمِعته، وتنسِبهُ إلى صاحبه.

ـ لا يُعجبنَّك إكرام مَن يكرمك لمنزلةٍ أو لسلطانٍ؛ فإن السلطان أوشكُ أمور الدنيا زوالًا، ولا يعجبنَّك إكرام مَن يكرمك للمال؛ فإنه هو الذي يتلو السلطان في سرعة الزوال، ولا يُعجبنَّك إكرامهم إيَّاك للنسب؛ فإن الأنساب أقلُّ مناقب الخير غَناءً عن أهلها في الدِّين والدنيا.

ـ إنك إنْ تلتمس رضى جميع الناس تلتمسْ ما لا يُدرك. وكيف يتَّفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضى مَن رِضاه الجَور، وإلى موافقة مَن موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تُصِب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه.

ـ لا تُجالِسِ امرأً بغير طريقَتِهِ، فإنك إن أردتَ لِقاءَ الجاهل بالعلِمِ، والجافي بالفقهِ، والعيِيّ بالبيانِ، لم تزِد على أن تُضَيّعَ عِلمَكَ، وتُؤذي جلِيسك بحملك عليه ثِقل ما لا يعرفُ، وغمِّك إياه بمثلِ ما يغتَم به الرجل الفصيح، من مُخاطبة الأعجمي الذي لا يفقهُ عنه. واعلم أنه ليس مِن عِلم تذكُرُهُ عند غير أهلِه إلا عابوه، ونصبوا له ونقضُوهُ عليك، وحرصُوا على أن يجعلوهُ جهلًا.

ـ إذا كنتَ في قوم ليسوا بُلغاء ولا فُصحاء فدَعِ التطاول عليهم بالبلاغة والفصاحة.

ـ اعلم أن الُمتشار ليس بضامن، وأن الرأي ليس بمضمون. بل الرأي كُلُه غَرَر؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، ولأنه ليس من أمرها شيء يُدركه الحازم إلا وقد يُدركه العاجز.

ـ لا تُكثِرَن ادعاء العِلمِ في كل ما يعرِضُ بينك وبين أصحابِكَ، واستحي الحياء كله، مِن أن تُخبر صاحبك أنك عالِم وأنه جاهل: مُصرِّحًا أو مُعرِّضًا.

ـ إن آنستَ من نفسِك فضلًا فتحرج أن تذكُرَهُ أو تُبديَهُ. واعلَم أن ظُهورَهُ منك بذلك الوجهِ، يُقَرّرُ لك في قلوب الناس من العيب، أكثر مما يُقرر لك من الفضل.

ـ إذا رأيت رجلًا يُحَدِّثُ حديثًا قد علِمتهُ، أو يُخبِرُ خبرًا قد سَمِعتهُ، فلا تُشاركه فِيهِ، ولا تتعقبهُ عليه، حِرصًا على أن يعلمَ الناسُ أنك قد عَلِمتَهُ، فإن في ذلك خِفّةً وشُحًّا وسوء أدب وسُخفًا.

ـ إيّاكَ إذا كُنتَ واليًا، أن يكون من شأنِكَ حُب المدح والتزكِية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثُلمَةً من الثُّلَمِ يتقحَّمون عليك منها، وبابًا يفتتِحونَكَ منه، وغِيبَةً يغتابونك بها، ويضحكون منك لها. واعلَم أن قابل المدحِ كمادِح نفسِهِ. والمرءُ جدير أن يكون حُبُّهُ المدحَ، هو الذي يحملُهُ على ردّهِ. فإن الرَّادَّ له محمود والقابل له معِيب.

ـ احفَظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتُكَ فيما بينك وبين عدُوكَ العدل، وفيما بينك وبين صديقِك الرضاء. وذلك أن العدو خَصم تصرعهُ بالحُجةِ، وتغلِبُهُ بالحُكامِ، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض، فإنما حَكَمُهُ رِضاهُ

ـ مِن أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه. فإن مَن خَفِي عليه عَيبُهُ، خفيت عليه محاسن غيره؛ ومَن خفي عليه عَيب نفسه ومحاسن غيره، فلن يُقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال محاسن غيره التي لا يُبصر أبدًا.

ـ الفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا. ومَن نزل به الفقر والفاقة، لم يجد بُدًا من ترك الحياء؛ ومَن ذهب حياؤه، ذهب سروره؛ ومَن ذهب سروره، مَقُتَ؛ ومَن مقت، أوذِيَ، ومَن أُوذي، حَزِنَ؛ ومَن حزن، فقد ذهب عقله واستُنكر حِفظه وفَهمُهُ. ومَن أُصيب في عقله وفهمه وحفظه، كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له. فإذا افتقر الرجل اتهمه مَن كان له مؤتمِنًا، وأَساءَ به الظن مَن كان يظن به حسنًا: فإذا أذنب غَيرُهُ، ظَنُّوهُ وكان للتهمة وسوء الظن مَوضِعًا.

 

(*) العبارات منتقاة من كتاب (الأدب الصغير والأدب الكبير) لعبد الله بن المُقَفَّع، طبعة الدار المصرية اللبنانية 2013.

إرسال تعليق

أحدث أقدم