بحثًا عن مقبرة الإسكندر الأكبر





بحثًا عن مقبرة الإسكندر الأكبر
الكاتب: عباس محمود العقاد

في شهر سبتمبر من عام 1960 أرسل القارئ "أحمد محمد المطيري"، من منطقة كامب شيزار، بالإسكندرية إلى بريد باب "يوميات" الذي كان يحرره الأستاذ عباس العقاد بصحيفة الأخبار الرسالة التالية:

[منذ عام، تقريبًا، حوَّل الخواجة "ستليو" ـ جرسون فندق سيسل ـ ميدان محطة الرمل إلى حُفر ومطبات؛ بحثًا عن قبر الإسكندر الأكبر الذي زعم أنه يوجد هناك.. ومنذ أسبوع قرأت في الصحف أن رجلًا برأس التين زعم ـ هو الآخر ـ أن هناك بجوار القصر مغارات وسراديب تدل على أن قبر الإسكندر موجود فيها، فهل ترى أن الباحثين عن هذا القبر سيجدونه في مدينة الإسكندرية؟ أو هو قول من قبيل الحدس والتخمين؟].

فكان رد الأستاذ العقاد على رسالته هو نص المقال التالي:

الذي لا شك فيه أن هناك ضريحًا فخمًا أُقيم بالإسكندرية لدفن الإسكندر فيه، وأن هذا الضريح اشتهر باسم "السوما" Soma؛ أي: الجسد، كان مقامًا بين أسوار المدينة الملكية التي كانت تشتمل على قصور البطالسة ومدافن الأمراء والأميرات منهم ومن غيرهم، كما كانت تشتمل على بناء الجامعة المشهورة باسم "الموزيوم".

ولم يبق في التاريخ دليل قاطع على أن رفات الإسكندر نقل إلى ضريحه بعد الفراغ من بنائه، اللهم إلا روايات هنا وهناك تحتمل الشك الكثير، ومنها أن "يوليوس قيصر" تاقت نفسه إلى رؤية وجه الفاتح العظيم، فهشم أنفه وهو يزحزح الغطاء عنه!

أما الشائع من الروايات التاريخية، فخلاصته أن الإسكندر حين وافاه أجله ببابل شُغل قواده عن العناية بجسده، فتركوه مهملًا بضعة أسابيع تعرض فيها للتلف، ثم استُدعي المحنطون من مصر وبابل لوقف التعفن المحتوم، فبذلوا غاية جهدهم في حفظ الرفات وتطبيبه، ووضع التابوت بعد ذلك على مركبة تشبه بناء الهيكل، أعدها القادة للانتقال بها مع موكب الجنازة الطويل من العراق إلى دمشق إلى واحة "آمون" للصلاة عليه في معبد الإله الذي كان ينتسب إليه! ثم نقله إلى بلدته "إيجة" بمقدونيا ليُدفن مع آبائه وأعضاء أسرته، ولكن "بطليموس" مؤسس دولة البطالسة أدرك خطر الدعوة السياسية التي يستفيدها بنقل الرفات إلى الإسكندرية، فأقنع الكهان بتسليمه إليه بعد إتمام المراسم الدينية، ثم نقله إلى مدينة "منف" ريثما يفرغ من بناء الضريح الضخم الذي يناسب الدفين فيه والدعوة الضافية التي تثار حواليه.

ومن هنا يبدأ الاضطراب والاختلاف حتى على اسم البطليموس الذي تم البناء في عهده، وقيل إنه استغرق أربعين سنة قبل أن يتهيأ لاستقبال دفينه.

ويظهر هذا الاختلاف من أقوال المؤرخين المتأخرين، وأسبقهم "ليون الأفريقي" صاحب التاريخ المنسوب إليه، فإنه يذكر أنه رأى بالإسكندرية بيتًا صغيرًا يُشبه المعبد ويحيط بقبر يكرمه المسلمون، ويؤكدون ـ اعتمادًا على كتابهم ـ أنه قبر إسكندر ذي القرنين، والمفهوم أن البيت الصغير الذي رآه هذا المؤرخ لم يكن هو ذلك الضريح الفخم الموصوف في أخبار الأقدمين، ولكنه على الأرجح يُوافق وصف المقام المشهور باسم مقام "النبي دنيال".

ويقول "أدين بيفان" صاحب كتاب "مصر في حكم البطالسة": إن رواية بقاء الرفات أربعين سنة بمدافن مدينة منف مبالغ فيها، وإن الأرجح أن بطليموس الأول هو ناقل الرفات إلى ضريح الإسكندرية الكبير.

ولكن هذا الضريح كان مجهولًا على عهد "يوحنا فم الذهب"، الذي كان يقول في سياق التهوين من مجد الجبابرة: (أين ضريح الإسكندر اليوم؟ خبروني!)

وسواء نُقل رفات الإسكندر إلى الإسكندرية، أو بقي بمدينة منف أو غيرها، فالثابت المحقق أن له ضريحًا بناه البطالسة في الإسكندرية، وأن هذا الضريح بُني داخل المدينة الملكية التي كانت تشغل نحو ربع المدينة بجميع أحيائها المعمورة، وكانت قصورها إلى جانب البحر وأضرحتها إلى الجانب الغربي على الأرجح محافظة على التقاليد الفرعونية، وقد ثبت كذلك أن هذا الضريح لم يكن ظاهرًا عند نهاية القرن الرابع للميلاد، وأنه تهدم أيام الثورة على الآثار الوثنية، وربما نُهبت دفائنه النفيسة وبُعثرت أجساده فلم يبق منها ما يُنبئ عن أصحابها، وليس لمن يتتبعون بقاياها الآن من دليل غير التخمين.

***

تعقيب الأستاذ "عمر عبد العزيز عمر" على الرد السابق، وتعليق الأستاذ العقاد عليه :

عقَّب الأستاذ "عمر عبد العزيز عمر" على يومياتنا على قبر الإسكندر بخطاب مطول، يشتمل على بحث قيم معزز بالأسانيد التاريخية، وينتهي منه إلى تأييد رأي الدكتور لطفي عبد الوهاب المتخصص لتاريخ الحضارة اليونانية الرومانية، وفحواه أن ضريح الإسكندر كان قريبًا من كنيسة في مكان الكنيسة المرقسية الحالية في منطقة شارع النبي دانيال، ثم يضيف الأستاذ عمر عبد العزيز إلى ذلك أنه يعتقد: (أن مكان الضريح ينحصر بين ثلاثة شوارع رئيسية؛ هي: شوارع شريف وسيزوستريس والنبي دانيال، وأن كل تنقيب يتعلق بهذا الموضوع يعتبر كسبًا علميًّا ولو أدى إلى نتائج سلبية؛ لأنه يقلل احتمالات الخطأ ويحصر دائرة البحث … ولا بد في يوم من الأيام أن يسفر عن كشف مكان الضريح).

ورأينا أن المؤرخين المختصين مطالبون بمتابعة البحث في كل موضوع يتعلق بتاريخ الإسكندرية، وأن تقديرات الأستاذين تساعد على حصر الموقع، ولا تناقض المراجع المعتمدة فيما يثبت من تاريخ الضريح، ولكن البحث كله موقوف على ضبط حدود المدينة الملكية القديمة، وهي على التحقيق متصلة بالشاطئ محصنة من جانب البر، أو غير مطروقة ولا ممهدة السبيل لمن يغير عليها من هذا الجانب، ولا بد أن تكون المقابر في القسم الداخل إلى ناحية الغرب على الأرجح، قياسًا على الأضرحة الفرعونية القديمة، لما هو معلوم من التزام البطالمة لشعائر الهياكل وتقاليد الأسر الملكية السابقة.

فإذا انحصرت القصور والمقابر في الحي الثاني، أو حي «الباء» كما يقول فيلون، فالأماكن التي يقدرها الأستاذان أقرب من غيرها إلى الغرض؛ لأنها تواجه الميناء من ناحية البحر وتقابله من ناحية الغرب إلى مسافة غير بعيدة من موقع القصور، ولكننا على هذا لا نخال أن ضريح الإسكندر بقيت منه بقية بعد تخريب جميع المعاهد الوثنية التي تشمله وتحيط به ولم تبق منها بقية قائمة، وليس في مباني النبي دانيال مشابهة للأبنية القديمة، ولا هي من الفخامة على الصفة التي يُوصف بها ضريح الإسكندر، وليس يخطر على البال أنها تجديد للضريح بعد هدمه؛ لأن هذا التجديد يحدث في حالة واحدة؛ وهي شيوع الاعتقاد بقداسة قبر الإسكندر المقدوني بعد هدمه، ثم تسميته بعد ذلك باسم النبي دانيال، وليس شيء من ذلك بمذكور في تاريخ يُعول عليه، ولا هو من التقديرات التي يرجحها الدليل.

وللإسكندر أسوة بصاحب الهرم الأكبر؛ لا الصرح المشيد حمى جثمان خوفو، ولا المدينة الواسعة حمت جثة بانيها، فلا أمان لأثر من الآثار من سخرية الأقدار وتقلب الليل والنهار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم