مأساة الأخوات برونتي




مأساة الأخوات برونتي
الكاتب: حلمي مراد (*)

الأخوات "برونتي" لقب يُطلق على الكاتبات الثلاث الشقيقات: "شارلوت" و"إميلي" و"آن برونتي".. اللاتي اقترن اسم كل منهن برواية من روائع الأدب الإنساني.. فقد استطاعت صغرى الأخوات الثلاث ـ وهي آن برونتي ـ أن تخلد اسمها برواية: "آجنيس جراي".. واشتهرت وسطاهن إميلي بروايتها: "مرتفعات وذرينج"، بينما وضعت كبراهن شارلوت برونتي رواية "جين إير".

ومن عجب أن الشقيقات الثلاث تشابهن في كل شيء تقريبًا!.. تشابهن في نبوغهن الأدبي.. كما تشابهن في هزال أبدانهن، وقصر أعمارهن، بل وفي إصابتهن بنفس المرض، الذي قضى على ثلاثتهن بالتعاقب ـ وهو مرض السل ـ فماتت به إميلى في سن الثلاثين (1818 – 1848).. وماتت به آن في سن التاسعة والعشرين (1820 – 1849).. ثم شارلوت في سن التاسعة والثلاثين (1816 – 1855).

كانت أسرة القس باتريك برونتي تقيم في قرية "هاورث"، التي تقوم على رأس سفح مرتفع ـ في مقاطعة "يوركشاير" ـ يمعن في الارتفاع حتى ليحسبه المرء مشرئبًا ليمس السماء.. وخلف الكنيسة، كانت دار القس تلوح خلال أفواف الضباب والمطر.. كأنها صرح عتيق مهجور، ترين عليه الجهامة والاكتئاب.. فلا تكاد تنبعث منه ضحكة.. وكأنما خلعت المقبرة التي قامت في حديقة الكنيسة، شيئًا من صمتها الساجي، ورهبتها الخاشعة، على راعيها وأسرته وداره.

وفي حجرات تلك الدار، التي حفت بها المقبرة من أمام، والمستنقعات من خلف، ولد للقس ستة أبناء لا يقلون جهامة وغرابة عن هذا الوسط الذي تلقاهم وأحاط بهم.. كانوا خمس بنات وولد، وهم بالترتيب: "ماريا"، "إليزابيث"، "شارلوت"، "برانويل" (وهو الابن الذكر)، ثم "إميلي"، وأخيرًا "آن".. وكانت تفصل بين كل طفل من الأطفال الستة والذي يليه نحو سنة واحدة فقط.. وقدر للأطفال أن يفقدوا أمهم ولما تتجاوز كبراهم الثامنة من عمرها، بينما كانت صغراهم "آن" تحبو في ثاني أعوام حياتها.

وفي داخل الدار كانت الخادمة "تابي" تروي للصغار قصص العائلات الغريبة الأطوار التي تقطن القصور والضياع المتباعدة في تلك المنطقة من مناطق مقاطعة يوركشاير.. كما كان الأب يعني بتعليم صغاره ويتحدث إليهم كما لو كانوا كبارًا.. وعودهم أن يطالعوا الكتب والصحف، ويناقشوه في محتوياتها.. وهكذا شبوا وقد أنمى الاطلاع فيهم ملكة الخيال والتصور.

ألحق الأب برونتي بناته بمدرسة بقرب "برافورد".. وهي المدرسة الرهيبة التي وصفتها شارلوت في قصة جين إير، باسم "لووود".. وبسبب نقص التغذية، وشظف الحياة، ماتت كلًا من ماريا وإليزابيث، الابنتين الكبريين.. فعادت شارلوت وإميلي وآن إلى دار القس في هاورث.. وإذ أصبحت شارلوت كبرى أخواتها، فإنها لم تلبث أن نصَّبت نفسها أمًا لهم؛ تنظم شئونهم، وترعاهم، وتعلمهم، وتقرأ صحيفة الصباح على أبيها وهو يحتسي قهوته، وتتزعم الأطفال في الإلحاح على تابي الخادمة، كي تروي لهم قصص الجان والعفاريت.

وقد كتب الأب على الأولاد أن يعيشوا في زهد وتقشف، إذ كان من أتباع مذهب "كالفن"،  حتى لقد حرموا مذاق اللحم، لأن اللحم يعد من مظاهر الترف.. بل إن اللعب كان ضربًا من الرفاهية لا يليق بهم!.. ومن ثم طبعت حياتهم بالحزن والكآبة والشعور بالمسئولية.. فقد كان حتمًا عليهم أن يتلقوا عن أبيهم دروسًا في الموت والحياة الأخرى.. وهم بعد يمتصون أصابعهم، ويحملقون فيما حولهم، يحاولون التعرف على الحياة الدنيا.

وكيف كان لهم أن يعرفوا هذه الحياة وهم الذين لم يكونوا يلقون من الناس أحدًا سوى أهل بيتهم.. ولا كانت أبصارهم تقع خلال نوافذ حجرة الأطفال بالدار غير على المقبرة الحزينة، والمستنقعات الكئيبة؟!.. وفي الصمت الواجم الذي كان يرين على عالمهم هذا.. كان الموت والشيطان لا يكفان عن الصراع: أولهما يبغي الاستيلاء على أجسادهم، وثانيهما يسعى للظفر بنفوسهم.. وكان الأب القس طرفًا ثالثًا في الصراع.. يمثل الله ويشرف على تنفيذ تعاليمه.

كان الأب برونتي يدعو أولاده إلى مكتبه مرة كل أسبوع، ليختبرهم فيما تكون أخته ـ العمة "برانويل" ـ قد لقنتهم من دروس.. وكان الأطفال يقفون أمامه في أدب وخضوع، شأن الصغار أمام أبيهم، فيسألهم بالدور:

ـ ما الذي يعوز الإنسان إذا ما كان في مثل سنك يا "آن"؟
وتجيب "آن" ذات العينين الزرقاوين، التي لم تتجاوز الرابعة:
ـ التجربة والخبرة يا أبت!
ـ وما الذي ينبغي أن أفعله بأخيك برانويل إذا ما كان مشاكسًا يا إميلي؟
وتجيب إميلي، التي كانت في الخامسة من عمرها:
ـ تجادله بالتي هي أحسن، فإذا لم يرعوِ لصوت العقل.. تضربه بالسوط!

وتثلج الإجابتان صدره، فهكذا ينبغي أن تكون أخلاق المتطهرين في رأيه.. ولا يلبث أن يلتفت إلى شارلوت التي لم تتجاوز الثامنة من عمرها، والتي لم تؤت قبسًا من الجمال، بل كانت ذات فم واسع معوج، وعينين حالمتين، فيسألها:

ـ ما هو أفضل كتاب في الدنيا؟
ـ التوراة.. والطبيعة يا أبت!
ويتحول الأب إلى ماريا كبرى البنات، فيسألها:
 خبريني يا ابنتي، ما أفضل الطرق للإفادة من الوقت؟
وتجيب ابنة الربيع العاشر من العمر:
ـ أعتقد أن خير طريقة للإفادة من الوقت.. هي في تكريسه للاستعداد للحياة الأخرى!

ويحين دور برانويل ـ الابن الذي عقد عليه الأب برونتي آماله ـ وكان إذ ذاك صبيًا مشاكسًا، شرسًا، في السابعة من عمره. فيسأله:

ـ ما أفضل الوسائل لمعرفة الفوارق بين ذكاء الرجال ومدارك النساء؟
ويقطب برانويل، ثم يقول:
ـ مراعاة الفارق بينهم في الجسم يا سيدي!
فيبهت مستر برونتي لهذا الجواب.

وينتهي الاختبار، فيسمح الأب لأولاده الستة بأن يخرجوا للنزهة مع كلبهم، مكافأة لهم، فينطلقوا في الأرض التي تتخللها المستنقعات.. وفي تلك السويعات القلائل كانت يد خفية عجيبة تربط بين الأطفال الذين كانوا يعيشون في عزلة.. وكأنما غفل عنهم البشر، وبين المنطقة المعشوشبة التي كانت تبدو وكأنما نبذها الله وأهملها.. وما أشد ما كان الشبه بين الفريقين.. الأولاد اليتامى الذين فقدوا الأم ورعايتها.. والمنطقة المهملة اليتيمة التي فقدت رعاية المصلح!

كان لا بد إذن لمن يقيمون في دار قس هاورث أن يلتمسوا الزمالة والحياة الاجتماعية في الخيال.. فقل مَن كان ينشد زمالتهم أو ينفذ إلى حياتهم.. ومن ثم فإن التاريخ لم يعرف إخوة أوتوا من الخيال المشحوذ المرهف، ما أوتيه أبناء القس برونتي.. البنات الثلاث والولد.

فقد راحوا يسودون المذكرات بمغامرات خيالية، واجتماعات موهومة، وأقاصيص تصور نفوسهم في آلاف من مرايا الفكر والوهم.. وكانوا بهذا يخلقون لأنفسهم عالمًا خاصًا بهم، عزز الوشائج بينهم.. وتقول شارلوت عن هذه الحقبة: كنا نعتمد كل الاعتماد على أنفسنا، ويركن كل منا إلى الآخر، وإلى الكتب، وإلى الدروس، نلتمس فيها ما يملأ حياتنا من لهو وشغل.

وهي تذكر أن محاولة الكتابة الأدبية كانت أشد ما يستأثر بشغفهم، وما يبعث السرور في نفوسهم.. فمنذ صباهن اتجهت ميول الشقيقات الثلاث نحو الأدب.. بينما مال شقيقهن الوحيد برانويل إلى الرسم.. لكنه مُني بفشل ذريع في جميع الميادين، فأدمن الخمر وصار مجلبة للخجل والعار.. وبعد أن يئسن الأخوات من أن يصبح مصدر دخل للأسرة، عمدن إلى البحث عن أعمال كمربيات لدى الأسر الثرية، وهي المهنة الوحيدة الشريفة للعوانس الفقيرات في ذلك العصر.

بعدها رحلت شارلوت وإميلي إلى "بروكسل" حيث اشتغلتا زمنًا بالتدريس، لكن صحة إميلي بدأت في التدهور، واشتد بها الحنين إلى أحراش يوركشاير، فعادتا إلى وطنهما.. وهناك بدأتا تمارسان مع شقيقتهما الثالثة كتابة القصة ونظم الشعر، فنشرن ديوانهن الأول بتوقيعات مستعارة لثلاثة أشقاء وهميين ـ من الرجال ـ بأسماء: "كيور، وإيليس، وأكتون بيل".

وبرغم فشل الديوان من حيث الرواج ولفت أنظار النقاد، فإن مجرد رؤية الشقيقات الثلاث لإنتاجهن مطبوعًا على الورق، كان كافيًا لإشعال حماسهن من أجل تحقيق أحلامهن الأدبية الواسعة.. فلم يكن لهن من أنيس سوى القلم والورق.. ولم يجدن ما يملأن به فراغ حياتهن منذ الصغر سوى الأدب ومحاولة قرض الشعر وتأليف القصص، التي كن ينتزعنها من صميم حياتهن ومن أحلام اليقظة.. التي كن يعوضن بها ما حرمن منه في حياتهن الواقعية.

لكن رغم ذلك  لم يكن أحد من أل برونتي سعيدًا.. فكأنما خلقوا من طينة غير طينة البشر ودنياهم.. فالواقع أن فواجع أسرة برونتي لم تقف عند حد؛ فلقد مات برانويل ولم يكن قد تجاوز الحادية والثلاثين من عمره.. وكان قد رحل إلى لندن، ليبرز في فن الرسم، فتردى في مباذل الفنانين، ثم عمل مدرسًا لأبناء رجل موسر، ولكنه طرد من عمله حين ظهر أنه كان يدبر خطة للفرار مع أم تلاميذه!.. وانحدرت به الحال حتى عمل كمحصل في أحد الخطوط الحديدية، إلى أن اكتشف المفتش أنه كان يرسم في دفاتره صور "فينوس" بدلاً من أن يسجل الأرقام، وكان يثبت قصائد من الشعر في مكان الحسابات.. وعندما هوت مكانة برانويل إلى الحضيض، عكف على ترجمة "الأوديسة" إلى شعر إنجليزي راق، ولكنه أفرط في الشراب، حتى قضى نحبه مخمورًا.

بعد وفاة برانويل نشرت إميلي روايتها الوحيدة مرتفعات وذرينج.. وبرغم أن الرواية نُشرت في البداية تحت اسم مستعار، فقد رجح القراء أن المؤلف امرأة، لكنهم تخيلوها امرأة مغامرة عركت الحياة الصاخبة، وإلا لما استطاعت تصوير العواطف بهذا العنف والجموح والقوة الدافقة.. وما درى الواهمون أن المؤلفة لم تعش إلا حياة الراهبات الناسكات!
.
ولم يمضي عام على نشر الرواية حتى بدأت إميلي تسعل.. لكنها أبت الاستكانة للعلاج.. بل ورفضت زيارة الطبيب.. فسارت نحو النهاية بخطى حثيثة..وحتى في يوم وفاتها ذاته.. ارتدت ثيابها، وهبطت من غرفتها وجلست تكتب كالعادة.. فماتت واقفة أو على خشبة المسرح كما يشتهي الممثلون.

وما هي إلا خمس شهور، حتى أنشب السل مخالبه في رئتي "آن" ـ صغرى الأخوات ـ وحملتها شارلوت إلى البحر عسى أن تفيد من نسيمه، ولكن "آن" أدركت أن النهاية قد دنت، فشدت على يد شارلوت وهي تهمس: تشجعي!.. ولم يحن أصيل ذلك اليوم حتى ماتت.

على أن شارلوت قد فاقت أختيها في تحمل العناء والآلام والأسى في هذه الحياة.. لقد عاشت أربعين عامًا في ظلام الحزن والشجن والحرمان العاطفي.. وكان الحب الوحيد الذي خفق به قلبها، حبًا مقضيًا عليه بالفشل من بدايته.. وأخلدت بعد يأسها منه إلى العزلة، وليس من أنيس لها ـ بعد موت أختيها وأخيها ـ سوى قلمها.

فبعد فشلها في أن تصبح معلمة، قبلت العمل كمربية للأطفال لكنها سرعان ما هجرت عملها في استياء، لتلتحق بمدرسة داخلية يديرها زوجان لتعلم كيفية إدارة المدارس، لكنها تعلقت بمعلمها برغم أنه كان على النقيض منها تمامًا في السن والميول والطباع، كما كان أبًا لخمسة أبناء، ولكنه كان أول رجل مرهف الذكاء صادفته، كما كانت تقول.

 إلا أنه في المقابل لم يكن يعي ما يساورها، ولم يفطن إلى وجدها ولم يشعر بحبها.. وعندما عرف لم يهتم به كما تمنت.. فما كان منها إلا أن حزمت أمتعتها ورحلت عائدة إلى هاورث، وهناك أمسكت بالقلم لتكتب له أروع الرسائل وأحفلها بالعواطف.. رسائل تتلظى بالنيران المتأججة في فؤادها.

لكنها للأسف لم تتلق ردًا منه.. ولم يحفل برسائلها كما هو متوقع.. فلم تجد أمامها لكي تنقذ نفسها من الجنون إلا أن تصهر عذابها وتصبه في قالب رواية.. رواية للأجيال، وللخلود.. هي رواية جين إير.. التي أحدثت ضجة هائلة ولقيت رواجًا عظيمًا وقت صدورها؛ كونها خرقت التقاليد التي جرى عليها المؤلفون في الروايات الغرامية في ذلك الزمن.. إذ جعلت بطلتها مربية ليس فيها ما يبهر الرجال، ولكنها تقع فى هوى رجل متزوج من امرأة معتوهة مخبولة. وقد كتبت شارلوت بعد ذلك روايتين هما: "شيرلي" التي تمثل صفحة من حياتها عندما كانت تعمل مربية في لندن، و "فاليت" التي استمدتها من ذكريات حياتها في بلجيكا.

وقبل أن تُكمل شارلوت الأربعين بقليل تطايرت الأنباء بأن قسًا من أبناء الجيرة قد صارحها بهواه، وتقدم للزواج منها، وكانت هذه هي الفرحة الوحيدة في حياتها، ولكنها لم تدم سوى شهورًا معدودة، فما لبثت أن مرضت ولازمت الفراش وهي بعد حامل في جنينها، وفي يوم 31 مارس عام 1855 توفيت شارلوت، مع ابنها الذي لم يولد بعد، في سن التاسعة والثلاثين.


(*) نص المقال مُقتطع من مقدمة ترجمة الأستاذ حلمي مراد لرواية مرتفعات وذرينج لإميلي برونتي، ومقدمة ترجمة الأستاذ إسماعيل كامل لرواية جين إير لشارلوت برونتي.. بتصرف من: محمد خيري الخلَّال.

إرسال تعليق

أحدث أقدم