رحلة ميدانية (قصة قصيرة)




رحلة ميدانية (قصة قصيرة)

تأليف: جينيفر كابلان  Jennifer Kaplan *
ترجمة: محمود راضي

بدأ الثلج لتوِّه في التساقط حين لاحظت "هيبا" للمرة اﻷولى الريش اﻷبيض الصغير المتنامي من كتفي "ستيلا".. لم نكن متيقِّنين مما سنفعل، لكننا اتفقنا على وضعها في جدول اﻷعمال وإعادة النظر في الموقف في الحصة القادمة.. فكرت في تكليفهم بكتابة تعليق على الموضوع، لكني رأيت أن لديهم ما يكفي لينجزوه.

وقعت أشياء غريبة منذ لقيت "ميا" قطيط رمادي بعين واحدة في طريقها إلى المدرسة ذات يوم، كانت قد سرَّبته إلى داخل البناية في حقيبة ظهرها وأطعمناه قطعًا من اﻹمبانادا المحشوَّة باللحم من الكافيتيريا وصببنا حليبًا في زبدية اشتريتها من الحي الصيني ومرسوم في قعرها سمك الشبوط.. في نهاية اليوم أسميناه "درويش"، وأيًّا كان مَن سيأخذه معه للمنزل، سيأتي به كل جمعة ونقيم حفلات مع "درويش".. نقيم هذه الحفلات اﻵن منذ ثلاثة أشهر، واعتاد أن يصير مركز الاهتمام.. باتت الريشات على كتفي "ستيلا" بُشرى لحقبة جديدة.. كان يومًا مبهجًا بين هذا والجليد.

كنا نقرأ لماركس قبل قدوم "درويش".. ما الذي يحتاجه اﻷمر ﻹقناع شعب كامل للعيش متعاونين؟.. أكان النظام المدرسي بأسره الذي وقعنا في شراكه هو نتيجة لتسليع التعليم والاحتياج المستمر ﻷنماط فائقة من اﻹنتاج، محققة مدخولات في صورة درجات جامعية مستقبلية وغايات مهنية ﻹرضاء اﻵباء والمدراء المتذمرين؟.. توافقنا على أننا نشعر جميعًا بإرهاق واغتراب بكل تأكيد، لكن ربما اختبارات منتصف الفصل الدراسي هي ما تحبطنا فحسب.

بعدها كنا نقرأ لنيتشه، وهو ما أثار النقاشات.. تساءل "مايكل": ما الخطب حيال ما يسمى بعقلية العبيد؟.. الكذب والتلاعب شكلان مشروعان من المقاومة عند مواجهة سلطة غير شرعية مستندة إلى القوة الغاشمة.. ردت "لوسي": لكن من اﻷفضل اﻹبقاء على عقلية السادة والنظر للخصوم بعين الشفقة والرحمة، بدلًا من الكراهية والخوف.. أمن اﻷفضل أن تكون أسدًا أم حملًا؟.. مفترسًا أم فريسة؟.. هل يهم اﻷمر طالما أحببت تلك الحياة بغض النظر عن النمط الذي تتخذه؟.. اشتبك الطلبة ﻷيام.. قررنا في الختام على كل حال أنه يمكن لنا الاتفاق على أمر واحد؛ وهو تفضيلنا أن نكون مطيعين.. وحين وصلت "ميا" مع القط.. قلنا جميعًا "نعم" في الحال.

منذ ذلك الحين، بدت أسنان "جوليا" في تناميها أكثر حدة قليلًا، واكتسب شعر "إريكا" ملمسًا صوفيًّا، وصار لدى "مايكل" تلك الخصلات الرمادية الغريبة وراء أذنيه مع بريق غريب في عينيه، ويمكنني أن أقسم أن جلد "نيكولا" يتخذ طبيعة ذهبية قشرية، لكن من جديد، كانت عيناي غائمتان على الدوام إثر تصحيح مقالات الصف التاسع.

في النهاية حل شهر يونيو، وكنا نقرأ لفيرجينيا وولف.. أعطيت الطلاب واجبًا عن محاولة التقاط حقيقة جمال شخص ما أو شيء ما فنيًّا أو كتابيًّا، ثم قررنا أن نُكرِّم السيدة "رامزي" بأن نقيم حفلة، وعرض صديق لي منزله في الشَّمَال.. لم يخرج الكثير من أولئك الطلاب من المدينة، ولا أنا منذ بدأت هذه المهنة من سبع سنوات.. تنامت اﻷبراج السكنية الزجاجية الجديدة حول المدرسة مثل شجرات بتولا فضية واقعة تحت تعويذة ساحرة تحاصرنا عقلًا وجسدًا.. أحب الطلاب الفكرة.. سنغادر مبكرًا، ونستقل القطار إلى هدسون، ونعود بحلول الخامسة عصرًا، كل هذا ضمن معايير التخطيط الرسمي للرحلات المدرسية.. وبما أن الرحلة يحل موعدها في يوم جمعة؛ بالتأكيد سنأخذ "درويش" معنا.

حين وصلنا للمنزل، استثير الطلاب.. في الوراء روضة ممتدة، تطوقها من ثلاث جهات أشجار التنوب، ونهر على الجهة الرابعة.. كل ما أرادوه هو اللعب.. تضرعوا قائلين: أيمكننا البقاء هنا للأبد؟.. هل علينا حقًّا العودة ومواجهة الاختبارات النهائية؟.. دورة أخرى من التقارير المملة؟.. طيب، كيف يمكنني أن أقول "لا"؟.. بحلول الساعة الثالثة حين توجب علينا العودة للقطار، لعق "درويش" مخلبه اﻷيمن واتجه مباشرة إلى الغابة، وفي عواء وغناء مبهجين، فرد الطلاب أجنحتهم ونفشوا فراءهم وانطلقوا في أثره.. ما عساي فعله سوى هز ذيلي واتباعهم؟!

انتهت..

* جينيفر كابلان: مدرسة أمريكية، ترعرعت في سان فرانسيسكو، ودرست في جامعات بيركلي وتونس ونيويورك والجامعة اﻷمريكية بالقاهرة، وتعمل حاليًا في مدرسة بارد الثانوية في كوينز، تعد قصتها القصيرة (رحلة ميدانية) هى أول قصة قصيرة تُنشر لها على اﻹطلاق، وفازت بها في مسابقة (قصص خارج المدرسة) من أكاديمية المعلمين بمدينة نيويورك للعام 2020

إرسال تعليق

أحدث أقدم