العمى: يخرج نظرك من الباب.. فتتهاوى إنسانيتك من الشباك





العمى: يخرج نظرك من الباب.. فتتهاوى إنسانيتك من الشباك
الكاتب: محمود راضي

دائمًا ما تُفجر لعبة الأسئلة الافتراضية كل التخيلات المحيطة بأية فكرة مجردة وتنزلها على اﻷرض، وذلك في محاولة تصور واقعي لتحقق اﻹجابات الناتجة عن هذه اﻷسئلة الافتراضية، مما يجعل منها سلاحًا إبداعيًّا ناجعًا للغاية، وتزداد فعاليته كلما كانت هذه اﻷسئلة مؤرقة وتستحق التفكير فيها.

الكاتب البرتغالي الراحل خوسيه ساراماجو من أكثر الكُتَّاب الذين يعشقون الانطلاق في رواياتهم على الدوام من نقطة افتراضية بالكامل.. من سؤال "ماذا يحدث لو حصل كذا أو كذا؟".. ومن هذه النقطة دائمًا يمد الخط على استقامته حتى يصل ﻵخر مدى يمكن أن تصل إليه هذه الفكرة، وعلى العكس من رواية (الطوف الحجري) ذات الطابع الحالم الذي يبشر بداية جديدة للعالم، تأتي رواية (العمى) لترسم رؤية شديدة القتامة للعالم فور اختفاء أهم حاسة يستخدمها البشر، وهي البصر، جراء وباء غامض يضرب إحدى المدن.

يلقي ساراماجو منذ السطور اﻷولى قنبلته في وجوهنا حين يصاب أول مريض بهذا الوباء الغامض دون مقدمات ولا يرى سوى اللون اﻷبيض أمامه، ثم يتركنا تمامًا ونحن نتابع كل ما يجري بناء على هذا الحدث الخارج عن العادي في حياة البشر مثل قطع دومينو تتساقط واحدة تلو اﻷخرى دون توقف، لنشهد أكبر تجلٍّ لاختفاء حاسة البصر من الحياة: دمار تام للحضارة التي صنعها اﻹنسان لدرجة تقارب العودة إلى نقطة الصفر، ارتداد ونكوص إلى كل الغرائز البدائية التي ظن اﻹنسان أنه تجاوزها بتأثير من اعتداد بمنجزات الحضارة الحديثة.

هذا النكوص والارتداد ينتج عنه مع الوقت استلاب وانمساخ للإنسان عما يشكل إنسانيته من اﻷساس، ومع الوقت يتحول سكان المدينة إلى أشباح لا حول لهم ولا قوة، كل ما يسعون إليه هو تلبية متطلباتهم اﻷساسية داخل عتمتهم البيضاء، وهو ما ترجمه ساراماجو من خلال إلغاء تام ﻷسمائهم على مدار صفحات الرواية، مُعرفًا إياهم فقط بأبرز سماتهم أو مهنهم، مما ينتج عنه أنهم لا يفقدون أبصارهم فقط، بل يفقدون ذواتهم، ومعها تضيع أسماؤهم في فضاء سرمدي أبيض اللون لا تكسره أية ألوان أخرى.

إرسال تعليق

أحدث أقدم