مقتطف من رواية (جنس النمل) لتشارلي كوفمان

 

مقتطف من رواية (جنس النمل)

تأليف: تشارلي كوفمان Charlie Kaufman

ترجمة: محمود راضي

 

بعد نجاحاته المتتالية في مجال السينما، وتقديمه لعدد من أبرز أعمال السينما المستقلة اﻷمريكية مثل Being John Malkovich وadaptation وeternal Sunshine of The Spotless Mind وsynecdoche, New York باﻹضافة إلى حصوله على جائزة اﻷوسكار في فئة أفضل سيناريو أصلي، قرر السيناريست والمخرج اﻷمريكي تشارلي كوفمان أن يقتحم مجال اﻷدب، وبالفعل صدرت روايته اﻷولى Antkind في فبراير الماضي.

 

وتتركز أحداث الرواية حول ناقد سينمائي يُدعى بي روزنبرجر روزنبرج، يعرف بأمر عمل سينمائي مدته أكثر من 2000 ساعة، استغرق من صانعه 90 عامًا لصناعته، لكن هذا الفيلم قد دُمِّر، ولم يتبقَّ منه سوى مجرد لقطة واحدة، ويفكر بي جديًّا في إعادة خلق هذه التحفة السينمائية الضائعة.

 

وفيما يلي ترجمة لمقتطف من فصلها اﻷول:

 

لحيتي أعجوبة، إنها لحية ويتمان، لحية راسبوتين، لحية داروين، وهي لحيتي المتفردة رغم هذا.. إنها ملح وفلفل، سلك مواعين، حلوى غزل البنات.. شديدة الطول، ومتموجة، ولا تنساق إلى الموضة.. وهذا هو المغزى، حيث تقدم "لا عصريتها" الشديدة أبلغ تعبير، إنها تقول: لا أبالي مثقال ذرة (ولا ويتمان!) [1] حيال صرعات الموضة، لا أبالي بالجاذبية، هذه اللحية شديدة الضخامة على وجهي النحيل.. هذه اللحية عريضة جدًّا.. هذه اللحية شديدة الثقل في صميمها على رأسي الصلعاء، إنها مُنفِّرة، لذا لو أتيت إليَّ، ستأتي إليَّ حسب شروطي.

 

بصفتي ملتحيًا هكذا منذ ثلاثة عقود، أود التفكير في أن لحيتي قد ساهمت في عودة الالتحاء، ولكن في الحقيقة، فإن لحى اليوم ذات شأن آخر، أغلبها شديدة الحساسية، متطلبة عناية أكثر من مجرد حلاقة نظيفة بسيطة، أو لو كانت عامرة، فهى عامرة بوجوه وسيمة وسامة تقليدية، وجوه الحطابين المزيفين، وجوه صناع الجعة المنزلية.. تحب النساء هذا المظهر، أولئك المتأنقين الحضريين، رجال في ملابس ذكورية. مظهري ليس كذلك، مظهري غير هيَّاب في غيريته الجنسية، أشعث، حاخامي، مثقف، ثوري. يجعلك تدرك عدم اكتراثي بالموضة، وأني غريب اﻷطوار، وأني غير جاد، وتوفر لي فرصة الحكم عليك بناء على حكمك عليّ.. هل تجتنبني؟.. أنت شخص سطحي.. هل تسخر مني؟.. أنت متخلف عن الحضارة.. هل أنت رافض؟.. أنت.. تقليدي.

 

هناك أمر ثالوثي أو ثانوي على أقصى تقدير، أنها تخفي بقعة بلون نبيذ بورت تمتد من شفتي العليا حتى قفصي الصدري.. هذه اللحية هي بطاقتي التعريفية.. الشيء الذي أُذكر به في بحر من التماثل، إنها السمة المميزة المتناغمة مع نظارتي البومية رفيعة اﻷذرع، وأنفي الصقري، وعيوني الشحرورية الغائرة، وقمة رأسي النسرية الصلعاء التي تجعلني مادة رسم كاريكاتوري، كطائر وإنسان على حد سواء.. توجد بضعة أمثلة مؤطَّرة من مطبوعات متباينة وصغيرة، لكنها مرموقة في النقد السينمائي، يزدان بها جدار مكتبي المنزلي (أرفض التصوير ﻷسباب فلسفية وأخلاقية وشخصية وجداولية).. صورتي المفضلة هي مثال على ما يُعرف عادة بتوهُّم الانقلاب [2]، حين تُعلَّق بالمقلوب، أبدو أني دون كينج [3] القوقازي.

 

بصفتي دارس ومولع بالملاكمة، انبهرت بهذه التورية البصرية، وبالفعل استخدمت النسخة المعكوسة من هذه الرسمة لتكون هي صورة المؤلف على كتابي (الديانة الضائعة للذكورية: جويس كارول أوتس، جورج بلمبتون، نورمان ميلر، إيه. جي. ليبلينج، والتاريخ القتالي أحيانًا ﻷدب الملاكمة، العلم العذب، ولماذا). الغريب في اﻷمر أن خُدعة دون كينج ناجعة في الواقع أيضًا.. في السواد اﻷعظم من الوقت، وبعد تأديتي للسيرساسانا [4] في فصل اليوجا، تقرقر حلقة الدجاجات أني أبدو مثل "ملاكم شنيع".. هذه هى طريقتهم في المغازلة، أتخيل هذه المخلوقات التافهة في منتصف أعمارها، المترجلات مع حصائر يوجا ملفوفة تحت الذراع أو في الجراب، معلنات عن انضباط روحاني لعالم لا يبالي، من اليوجا إلى الغداء إلى التسوق إلى فراش زواج خالٍ من الحب.. بينما أنا هنا فقط من أجل التمرُّن. لا أرتدي زيًّا خاصًّا، أو استمع إلى عظة دينية شرقية هجينة يهذي بها المُدرب سلفًا، لا أرتدي حتى سراويل قصيرة ولا تي شيرت.

 

بالنسبة لي: بنطال قماشي رمادي وقميص أبيض سُفلي الزر وحزام وحذاء بلاك أكسفورد على قدماي، ومحفظة معبأة بكثافة نحو الجيب اﻷيمن الخلفي.. أظن أن هذا يؤكد مغزاي، أنا لست نعجة، لست تافهًا.. إنه نفس الرداء الذي أرتديه لو وجدت نفسي أقود دراجة في الحديقة بغرض الاسترخاء في مناسبة عَرَضِية.. بدلة من ألياف السباندكس مأهولة باللوجوهات ليست من أجلي.. لست في حاجة بعد اﻵن في الاعتقاد أني قائد دراجة جاد، لا أحتاج إلى التفكير في أي أمر يخصني، أنا أقود دراجة، هذا كل ما في اﻷمر، لو أردت التفكير في شيء ما يخص هذا، لك هذا، لكني لا أبالي.. سأعترف أن حبيبتي هي التي أركبتني دراجة، وأدخلتني فصل اليوجا. إنها ممثلة تليفزيونية معروفة جيدًا، مشهورة بدورها كأم صالحة لكنها جذابة في مسلسل كوميدي تسعينياتي، وأفلام تليفزيونية عديدة.. بالتأكيد تعرف من هي، قد تقول إنه ﻷني كاتب مثقف وأكبر في السن، فإن هذا يجعلها "بعيدة عن منالي"، لكنك ستكون مخطئًا.. مما لا شك فيه أننا التقينا في حفل توقيع كتاب سيرتي الذاتية النقدية المرموقة المطبوعة ذاتيًّا عن..

 

شيء ما (غزال؟) يندفع أمام سيارتي، مهلًا!.. هل توجد غزلان هنا؟.. أشعر بأني قرأت عن وجود غزلان هنا.. أحتاج للبحث في هذا.. ذوات اﻷنياب، أهناك غزلان ذات أنياب؟.. أظن بوجود شيء كهذا، غزال ذو أنياب، لا أدري لم أربطها بفلوريدا.. أحتاج للبحث بخصوصها حين أصل.. مهما كانت، فقد ذهبت منذ زمن.

 

كنت أقود عبر العتمة في اتجاه سانت أوغسطين.. جال عقلي في مونولوج اللحية، كما يحدث دومًا في الجولات الطويلة بالسيارة، جولات من أي نوع.. ألقيتها في حفلات توقيع الكتب، في محاضرة عن جان-لوك جودار في شارع 92 وقاعة المحاضرات/ صالة الطعام/ مسكن الطلاب.. يبدو أن الجميع يستمتعون بها.. لا أهتم لو كانوا كذلك، لكنهم كذلك.. أنا أشارك فحسب تلك القطعة التافهة ﻷنها صادقة.. الصدق مُعلمي في كافة اﻷشياء لو استطعت القول إن لي مُعلمًا، وهو ما لا أستطيعه. 90 درجة وفقًا لمقياس الحرارة خارج سيارتي.. 89% رطوبة حسب لمعان العرق على جبهتي (كنت معروفًا بكل مودة في هارفارد بـ"مقياس الرطوبة البشري").. انقضاضة حشرات على المصابيح اﻷمامية، صافعة الزجاج اﻷمامي، ومُلطخة بمسّاحات الزجاج.

 

تخميني شبه الاحترافي أنه سرب من ذباب الحُب ذات الاسم على مسمى، البيليشيا نياركيتيكا، ذباب شهر العسل، الحشرة ذات الرأسين، سُميت بذلك ﻷنها تطير متلاصقة حتى بعد إتمام التزاوج.. هذا هو النوع من التعانق بعد الجماع الذي أراه ممتعًا مع حبيبتي الإفريقية - اﻷمريكية. ستعرف اسمها.. لو استطاع كلانا الطيران عبر فلوريدا في الليل معًا على هذا النحو، سأوافق في ثانية واحدة، حتى في وجه مخاطرة التناثر قبالة زجاج أمامي مهول.. أجد نفسي على الفور ضائعًا في سيناريو محسوس ومحتوم.. يوقظني تنبيه مسموع من الخيالات المتنوعة في رحلة الطريق، وأرى حشرة ضخمة وغريبة انسحقت على الزجاج، مُحقت في منتصف ما اعتبره ربع الجزء الشمالي الغربي من الزجاج اﻷمامي.

 

الطريق السريع خال، ينقطع العدم من كلتا الجهتين من عندي بسبب اﻹضاءات الفلورية العَرَضِية لمطاعم الوجبات السريعة، أبوابها مفتوحة دون عملاء، لا توجد سيارات في ساحات الانتظار، اﻷسماء غير مألوفة: سلاميلز، ذا جاك نايف، مايك بيرجر. ثمة نذير شؤم حيال هذه اﻷماكن المعزولة في قلب اللا شيء.. من يُطعمون؟.. كيف يحصلون على لوازمهم؟.. هل تأتي عربات البرجر المُجمد إلى هنا من أحد مخازن سلاميلز من مكان ما؟.. كم يصعب التخيل.. ربما من الخطأ القيادة من نيويورك إلى هنا، ظننت أنها ستكون تأملية، وأنها ستمنحني الوقت للتفكير في الكتاب، وفي ماريا، وفي دايزي، وفي جرايس، وفي مدى ابتعادي عن أي شيء تصورته لنفسي.. كيف حدث هذا؟.. هل أستطيع معرفة من كنت أنا قبل أن يضع العالم يديه عليَّ ويحولني قبالة ذاتي إلى هذا.. الشيء؟

 

 [1] لعبة لفظية يعتمدها الكاتب استغلالًا للتشابه بين كلمة Whit التي تعني (مثقال ذرة)، وwhitman نسبة للشاعر اﻷمريكي والت ويتمان.

[2] حالة من التوهم البصري تحدث بشكل طارئ لدى بعض الطيارين نتيجة لتغير الوضعية خلال الطيران.

[3] واحد من أشهر منسقي مباريات الملاكمة في الولايات المتحدة اﻷمريكية.

[4] وضع الوقوف على الرأس.

إرسال تعليق

أحدث أقدم